مدينة الإنسان
لم يكن هبوط آدم وحواء من الجنة عقوبة بقدر
ما كان إمضاءً لسنة إلهية قضت بأن يعيش الإنسان رحلة حياته الأولى في دارٍ يُبنَى
العيشُ فيها على ثنائية الراحة والتعب.
وقد التمس الإنسان لنفسه فيما علّمه الله
تعالى وألهمه ـ أسبابًا تجلب له الراحة، وتدفع عنه التعب والنصب، وكان اتخاذ البيوت
والمنازل واحدًا من أبرز هذه الوسائل وأهمها.
في البدء كانت البيوت متناثرة متباعدة، تعتمد
على ما يتوافر في الأرض وعليها من موادَّ، فهذا بيت من شَعْر، وذاك منزل من
حَجَر... وسكن الإنسان الكهوف ـ كبيوت جاهزة ـ في بعض مراحل حياته فوق
الأرض.
ومع استمرار مسيرة الزمن دنت البيوت من
البيوت، وتقاربت حيطانها، وكثرت أعدادها وأصبح الناس يرون كل مجموعة من البيوت وحدة
واحدة. وعلى أكتاف هذه الوحدات قامت فكرة القرى والمدن. ومشى الإنسان على الأرض
زمنًا، يبعثر في أنحائها القرى والمدن: على مجاري الأنهار، وفي الأودية والبقاع
التي تَخْصُب فيها الزراعة، وحيث تَنْصَدِعُ الأرض فتُنبت الحب والثمار، وحيث ينشط
مرور التجّار..
ويا لها من رحلة طويلة وعجيبة، حملت فيها
الأرض أثقالاً وأثقالاً فوق ظهرها؛ مدنًا وقرىً، لكن هل تستوي المدن جميعًا، فتقف
على درجة واحدة من عراقة التاريخ، وتلبس ثياب الطهر وأزياء القداسة.
لقد تفاوتت مقامات المدن ودرجاتها، حتى علا
بعضها في الذُّرَى حيث لا يُلحق، واكتفى بعضها الآخر بطرف من المجد، وبقي الكثير
مغمورًا في إطاره المحلي لا يتعداه.. ومن النجوم البازغة في سماء المدن مكة
والمدينة والقدس، وكذلك دمشق وبغداد وطيبة وروما وقرطبة، وغيرها...
وإذا كان لكل مدينة موضعها وموقعها الجغرافي
الخاص بها، فإن لكل واحدة منها أيضًا شخصيتها التي تميزها.. والقدس، أو بيت المقدس،
أو أورشليم، أو إيلياء ـ هي إحدى الأمهات الكبرى للمدن التي شيدها الإنسان فوق ظهر
الأرض، بل هي زهرة مدائن الدنيا.
القدس زهرة المدائن:
كانت الأرض واسعة لا يتصارع عليها الناس،
بِكْرًا تَبُوحُ لهم كل يوم بِسِرٍّ كبيرٍ من أسرارها، فهنا نهر كبير يجري، وهناك
وادٍ خصيب جواد بالخضرة والخير، وهناك آبار غزيرة فياضة بالماء .. هكذا بدا المشهد
في المراحل المبكرة لحياة البشر فوق الأرض.
وقد سعى الإنسان منذ القدم وراء هذا الخير
الذي نشرته يد القدرة الإلهية الخالقة في الأرض، وهناك أقام الإنسان مدنه ومنازله
وقراه.
وقد جعل الله تعالى الناس شعوبًا وقبائل،
وكان من نصيب اليَبُوسِيِّين ـ وهم سامِيُّون عرب ـ تشييدُ البناء الأول لمدينة مِن
أعظم مدن الدنيا والتاريخ، وذلك قبل الميلاد بثلاثين قرنًا، حيث لم يكن النبي
الكريم إبراهيمُ ـ عليه السلام ـ قد ظهر فوق صفحة التاريخ داعيًا إلى التوحيد،
منتقلاً به من العراق وما بين النهرين، ومتنقلاً به بين الشام ومصر
والحجاز.
ولم يكن بناء اليبوسيين لزهرة المدائن أو
مدينة بيت المقدس سوى البناء الأول لها، وعلى مدى التاريخ جددت المدينة ثوبها ثماني
عشرة مرة، فهدمت أو دمرت ثم أعيد بناؤها في كل هذه المرات، حتى استقرت على هيْأتِها
في العهد العثماني، ودخلت عليها زيادات أخرى كبيرة مع الاحتلال الإسرائيلي للتقليل
من شأن القدس القديمة ومسخ طابعها الخاص.
القدس بين البناء والهدم:
اختار الله ـ تعالى ـ لمكة أن تكون في المركز
الحقيقي للكرة الأرضية، لكنها ظهرت كوديعة في قلب الصحراء الأمين، بعيدًا عن مواطن
الاحتكاك، وأماكن الصراع بين الأمم، تأمينًا للأداء المطمئن لمناسك الطاعة في هذا
المكان المختار المقدس.
أما بيت المقدس، فهي جوهرة ألقيت في قلب
العالم المَوَّارِ بالحركة، حيث تتلاقى أطراف أمم شتى، وتطل عيون كثيرة طامعة في
السيطرة على هذه البقاع.. وكأن القدس تبعث الحيوية في حياة البشر بهذا الموقع وتلك
المكانة التي لها، فتتلاطم فيها أمواج البشر: المسالمة طلبا للقرب، والمحاربة طمعا
في السيطرة وبسط السلطان.
والقدس مدينة ذات أرقام قياسية كثيرة،
حققتْها منذ جلست في موضعها من بلاد الشام وأرض فلسطين، فقد هُدمت، أو دمرت، وأعيد
بناؤها ثماني عشرة مرة، ودخلها الفاتحون ـ من شتى الأمم ـ سبعا وثلاثين مرة، كما
نالت منزلة رفيعة عند المسلمين، ولدى اليهود والنصارى.
وعلى يد اليبوسيين الكنعانيين كان البناء
الأول "لأورسالم" التي سميت عند المسلمين بيت المقدس، وتتابعت فيما جاء بعد ذلك من
التاريخ أمم عديدة سيطرت على المدينة المباركة فجاء المصريون القدماء، والعبرانيّون
من بني إسرائيل، وتبعهم البابليون الذين كانوا عُتَاةً جبارين، وجاء الفرس على
أثرهم، ثم اجتاحت جيوش الإسكندر المقدونيّ المنطقة بأسرها حتى سيطروا عليها. وخلف
على بيت المقدس بعد زوال دولة الإسكندر وخلفائه ـ الرومانُ، الذين بقيت المدينة في
أيديهم، حتى فتحها المسلمون، وبقيت في أيدي المسلمين منذ ذلك الزمن (العام السادس
عشر للهجرة)، وإن تعرضت للاحتلال ثلاث مرات: من الصليبيين في نهاية القرن الخامس
الهجري، ومن البريطانيين ثم اليهود في القرن العشرين الميلادي.
اليبوسيون يبنون بيت
المقدس:
كما لم يكن هنالك بشر يوم خلق الله ـ تعالى ـ
الأرض، لم يكن هنالك ـ أيضًا ـ يهودي ولا إسرائيلي يوم بني اليبوسيّون بيت المقدس،
فقبل الميلاد بثلاثين قرنًا (أي: في العصر البرونزي) اختارت الأقدار الموقع
والبُنَاةَ الذين شيدوا مدينة القدس لأول مرة فيما هو معروف لنا من
التاريخ.
ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، أو خمسة آلاف
عام من اليوم، تفصل بيننا وبين تلك العقول العربية القديمة التي راحت تختار للمدينة
المقدسة موقعَها، وتخطط لمبانيها.. وتلك العضلات التي راحت تنفِّذ خِطط البناء،
واضعة حجرًا فوق حجر، وواصلة جدارًا بجدار، حتى استتمّ بناء المدينة الصغيرة،
وبَدَتْ كأنها طفل وديع يتطلع من فوق هضبة عالية إلى الدنيا من
حوله.
إن المعلومات التي نعرفها عن اليبوسيّين؛
أولِ من بنى مدينة بيت المقدس ـ قليلةٌ، وإن كان من المؤكد أنهم فرع من الكنعانيين
العرب الذين هاجروا من الجنوب، وبالتحديد من شبه الجزيرة العربية، إلى هذه الأنحاء
ذات الموقع المتميز والمتفوقة في ثرواتها قياسًا بصحراء الجزيرة العربية القاسية...
وكانت لغة اليبوسيين الأصليةُ كنعانيةً، ثم انضمت إليها فيما يُعتقَد لغةُ
البابليّين عند سيطرتهم على القدس.
وقد اختار اليبوسِيّون شمال بلاد فلسطين
ليَقْطُنُوا فيها، بينما اختار أبناءُ عمومتِهم الفينيقيّون سُكْنَى الشواطئ
الجنوبية لفلسطين.
ولم يكن العقل البشري حينئذ معطلاً عن
التفكير وحُسن التدبير، برغم البعد الزمني الكبير بيننا وبين اليبوسيين؛ فهم حين
فكروا في تشييد عاصمة لهم اختاروا موضعًا حصينًا مرتفعًا عما حوله من الأرض،
وبَنَوْا لها حصنا؛ حتى تبقى في مأمن من الأعداء، واختاروا لها أيضًا موقعا
استراتيجيًا حيويا؛ حتى ينتفعوا بمميزاته التجارية وخيراته الطبيعية، فبنيت المدينة
مع مجموعة من المدن الكنعانية على طريق المياه بين الشمال والجنوب على مرتفع الضهور
قرب عين ماء جيحون أو نبع العذراء في موقع حيوي. وحفر اليبوسيون نَفَقَـًا تحت
الجبل لنقل مياه النبع إلى داخل الحصن.
وكان ذلك في عهد الملك الكنعاني "سالم"، الذي
عُرف بملك السلام، وعُرفت مدينته باسم "يبوس"..
وجاء الملك اليبوسي "ملكي صادق" في القرن
الحادي والعشرين قبل الميلاد تقريبا، فزاد في مباني المدينة، وشيد على المرتفع
الجنوبي المعروف اليوم بـ "جبل صهيون" قلعة للدفاع عن القدس، التي صار اسمها حينئذ
أوروسالم أو أورشاليم كما نطقها العبريون بعد ذلك بزمن طويل.
وفي مدن فلسطين القديمة أرشدت الحفائر إلى أن
البيوت كانت صغيرة متراصَّةً، تتكون من طابق واحد، وهي إما من الطين أو الحجر
العادي، وعادة تكون في سفح تل، أو عبارة عن كهوف في سفح التل. أما في داخل المدينة،
فالشوارع ضيقة جدًا وملتوية، ولا توجد بها ميادين وعند مدخلها "السوق" حيث تقام
المحكمة، وتعقد العقود، وتعلن التشريعات.
وفي هذا الزمن البعيد، كانت للقدس أهمية
تجارية خاصة؛ لربْطِها بين البحر والصحراء، وَوَصْلِهَا حبرونَ (الخليل) ببيت إيل
من أعمال رام الله، وتستمر الطريق من بيت إيل نحو شكيم (نابلس) من ناحية، ونحو
أريحا ووادي الأردنّ من ناحية أخرى.