تنافس هاشم بن عبد مناف وأخوه عبد شمس جد بني أمية في الجاهلية على الشرف والسيادة، فتفوق هاشم، وحاز قَصْبَ السَّبْق، وأصبح أحق بالرياسة على قريش.. وفي نفس الوقت تفرغ أخوه للتجارة حتى برع فيها، وتجول بتجارته في كثير من البلاد، وورث أبناؤه عنه ذلك..
وفي رحلة له إلى بلاد الشام توفي هاشم، ودُفن في غزة على مقربة من بيت المقدس، وأدرك الأجل أخاه عبد شمس أيضا، وهو صاحب معرفة جيدة بمدن الشام وقراه، فظلت المنافسة بعدهما، على كل أنواع الرياسة والسيادة، شديدة بين البيتين الهاشمي والأموي..
فلما بعث الله نبيه محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بني هاشم، آمن به أناس من الفريقين، وكفر به أناس من الطرفين كذلك.. فلما انتصر الإسلام جمع الفريقين تحت ردائه، وعد العصبية للآباء والأعراق بقية من ميراث الجاهلية البغيض..
واستعمل المسلمون مواهبهم في العمل لدينهم، لا فرق في ذلك بين هاشمي وأُموي، حتى خضعت لهم أعظم بلاد الدنيا المعمورة حينئذ، ومنها مدينة بيت المقدس، التي استُشهد في الطريق إلى فتحها الكثير من عظماء الرجال من الهاشميين والأمويين وغيرهم..
ولم يمر وقت طويل حتى وقع الخلاف بين المسلمين بعد استشهاد عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وقد كان قتل الأمير هو الفتنة التي تفرّق المسلمون لأجلها، إذ أصر فريق يقوده معاوية بن أبي سفيان على سرعة الثأر من المجرمين، في حين رأى علي بن أبي طالب أن ذلك ليس مأمون العواقب إلا حين تستقر أمور الدولة في يديه..
ولم ينته هذا الخلاف إلا حين قُتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب شهيدا بيد أحد الخوارج، وتنازل الحسن بن علي عن الخلافة حقنا لدماء المسلمين، فآلت الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان، لتبدأ فترة جديدة يعْرفها المؤرخون بـ "الدولة الأموية"..
واتخذ الأمويون كرسي ملكهم في بلاد الشام، حيث يجتمع أنصارهم، وبالتالي كانت القدس قريبة من عيونهم، فترك العديد من خلفاء بني أمية في المدينة المقدسة علامات خالدة وأعمالا كبيرة، لا زال العديد منها باقيا ـ بصورة من الصور ـ يشهد لهم، كما فعل عبد الملك بن مروان وابنه الوليد ، ومثلما صنع سليمان بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز..
وقد بويع في القدس بإمارة المؤمنين للعديد من خلفاء بني أمية، مثل معاوية بن أبي سفيان والوليد وسليمان ابني عبد الملك.
وحفظ التاريخ لنا وصفا جميلا للمدينة المقدسة أثناء الحكم الأموي.
وصف القدس في زمن بني أمية:
معاوية بن أبي سفيان من الشخصيات الكبيرة التي شهدت انتقال القدس إلى السيادة الإسلامية، فكان من أفراد الركب المسلم الذي التف حول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وهو يتسلم مفاتيح بيت المقدس من بطريرك المدينة صفرنيوس..
ولم يكن معاوية حاضرا عاديا لهذا المشهد الكبير، بل كان أحد الشهود على وثيقة العهد الذي كتبه عمر لأهل بيت المقدس..
وحين صارت الخلافة إلى معاوية سنة إحدى وأربعين للهجرة، كانت القدس تعرفه ويعرفها، إذ مكث زمنا طويلا أميرا عليها وعلى الشام كله.
وقد وصف المؤرخون القدس تحت ظلال الأمويين فقالوا: "كان للقدس يومئذ سور، وكان على ذلك السور أربعة وثمانون برجًا، وله ستة أبواب، ثلاثة منها فقط يدخل الناس منها ويخرجون: واحد غربي المدينة، والثاني شرقيها، والثالث في الشمال. وكان يؤم المدينة، في اليوم الخامس عشر من شهر أيلول (سبتمبر) من كل سنة، جماهير غفيرة من مختلف الأجناس والأديان بقصد التجارة، ويقضي هؤلاء فيها بضعة أيام. وكان فيها مسجد مربع الأضلاع، بُني من حجارة وأعمدة ضخمة نقلت من الأطلال المجاورة. وهو يتسع لثلاثة آلاف من المصلين. والمعتقد أن هذا هو المسجد الذي بناه عمر بن الخطاب. وكان جبل الزيتون مغطى بأشجار العنب والزيتون. وكان سكان بيت المقدس يومئذ يأتون بالأخشاب التي يحتاجون إليها من أجل البناء والوقود، تنقل على الجمال من غابة كثيفة واقعة على بعد ثلاثة أميال من الخليل إلى الشمال".
القدس في عهد عبد الملك والوليد:
يُعد عبد الملك بن مروان المؤسس الحقيقي للدولة الأموية، فقد أنقذها من الانهيار، وانتصر على منافسه القوي عبد الله بن الزبير، حتى خضعت له الحجاز والعراق، وانفرد بالحكم في العالم الإسلامي.
وقد جاء من بعده ابنه الوليد، فبلغت الدولة في عهده شأنا كبيرا، وكثرت الفتوحات حتى وصل المسلمون إلى أوروبا من جنوبها الغربي، وفتحوا الأندلس، كما توغلوا في آسيا إلى الشرق والجنوب، وفتحوا السند والهند..
ولعبد الملك والوليد في القدس أعمال خالدة، ما زال بعضها قائما إلى اليوم، فبناء المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة هما من أعمال عبد الملك والوليد وقد رصد عبد الملك لبناء قبة الصخرة وحدها خراج مصر سبع سنين، كما عبّد طريق القدس إلى الشام، وطريق القدس إلى الرملة.
وأما الوليد، فقد بويع بالخلافة ـ فيما يقال ـ على سطح الصخرة المقدسة، وواصل عمل أبيه في بناء المسجد الأقصى حتى أتمه، ورتب له الخدم والرعاة الذين يصونونه.
سليمان بن عبد الملك وبيت المقدس:
سليمان هو ثاني أبناء عبد الملك بن مروان الأربعة (الوليد وسليمان ويزيد وهشام) الذين تولوا الخلافة بعد أبيهم، وكان آخرُ مناصبه قبل مبايعته بالخلافة العامة (سنة ست وتسعين) هي الولاية على فلسطين..
وقد أعطى هذا المنصب لسليمان معرفة جيدة بفلسطين ومدنها، وعلى رأسها القدس والرملة، وكان محببا إليه الجلوس تحت قبة السلسلة بأرض الحرم القدسي الشريف.
وترجم سليمان حبه للقدس عقب توليه الخلافة بصورة أبهى من ذلك، فبويع على سطح الصخرة تحت القبة التي بناها أبوه، في مشهد مبهر، اجتمع فيه الناس حول الخليفة الجديد وإلى جانبه المال وكتّاب الدواوين.
وكاد سليمان أن يتخذ قرارا، هو الأول من نوعه في تاريخ المسلمين، بنقل العاصمة إلى بيت المقدس أو الرملة، وسيطرت على تفكيره حينئذ صورة نبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ وهو يحكم مملكته القوية من بيت المقدس.. ولكن هذا الأمر لم يتحقق، ربما للموت السريع الذي أدرك سليمان بن عبد الملك سنة ثمان وتسعين وهو في مرج دابق شمالي الشام.
العباسيون والقدس:
مع العباسيين بدأت العاصمة تنتقل شرقًا إلى العراق، حتى بنى المنصور بغداد هناك، فاختطفت الأضواء من كل مدن الدنيا، وبهذا تراجعت مكانةُ الشام ومدنِه عما كانت عليه في عصر الأمويين، وبرزت أسماء الكوفة وبغداد والبصرة ، بدلاً من دمشق وبيت المقدس والرملة.
وعلى الرغم من ذلك فقد اهتم العباسيون منذ بداية دولتهم (سنة مائة واثنتين وثلاثين للهجرة) بإدخال الشام وفلسطين تحت سلطانهم، لما لهذه المنطقة من أهمية بالغة، فدخلها صالح بن عليّ عمُّ الخليفة المنصور في نفس السنة، في خمسين ألف مقاتل، وضمها إلى التاج العباسي المنتصر.
وكان من نصيب الشام في بداية الدولة العباسية أن تقع تحت إمارة رجل من البيت الحاكم، تميز بالغلظة والشدة، وهو عبد الله بن عليّ الذي تَتَبَّع الأمويين في كل مكان من فلسطين والشام، وقتل الكثيرين منهم، وتسبب في ثورتهم ضد الخلافة الجديدة في دمشق وقِنَّسْرين؛ حيث وُوجِهُوا بشدة بالغة.
وعقب تولي المنصور للخلافة سنة مائة وست وثلاثين، ثار عمُّه عبدُ الله بنُ عليّ ضده في الشام، وسار عبد الله على نهجه السابق في الغلظة والشدة، واستقل بالشام عن الدولة، مدعيًا أنه أحق بالخلافة من المنصور ابن أخيه، وحين لم يستجب لنداءات المنصور السلمية، بعثت إليه الخلافة جيشًا كبيرًا انتزع منه الشام، فصارت بيت المقدس تحت تاج الخلافة العباسية المستقرة.
ومنذ استقرت الأمور للبيت العباسي تعود الخلفاء تفقد مدن الشام، وزيارة بيت المقدس، كما فعل المنصور حين خضعت له الشام. وانصب اهتمامهم في الغالب على المسجد الأقصى، فرَعَوْه واهتموا به، وتابعوا ترميمه وبناءه، كما فعل المنصور والمهديُّ والمأمون.
ومن القضايا العباسية الأخرى ذات الصلة ببيت المقدس، علاقة الخلافة بالمسيحيين من أهل القدس، وتأثر وضع المدينة بالتقلبات السياسية في عموم الدولة حينما ضعفت حتى خضعت القدس للطولونيين، ومن بعدهم للإخشيديين، ثم الفاطميين.
علاقة العباسيين بأهل الذمة في القدس:
في الصراع الأموي العباسي وقف أهل الذمة في بيت المقدس على الحياد، فهو صراع "لا ناقة لهم فيه ولا جمل"، فبقيت أمورُهم مستقرة، يزاولون حياتهم وعقيدتهم بحرية، على الصورة التي تعهد لهم بها المسلمون منذ الفتح العُمَرِيِّ للقدس.
فلما تولى المهدي الخلافة سنة مائة وثمان وخمسين للهجرة، اعتنى بمواجهة البِدعة والانحراف العقائدي في صفوف المسلمين، ونفى إلياس الثالث بطريرك بيت المقدس إلى بلاد فارس؛ لعصبية دينية ظاهرة من البطريرك نحو دينه، كما أسكن "المهدي" المسيحيين من أهل القدس في حي واحد بالمدينة.
وفي عهد الرشيد بلغت الدولة ذروةَ مجدِها، وصب هذا في اتجاه تحسين معاملة الدولة لأهل الذمة بصورة كبيرة في بيت المقدس وعموم الدولة.
وأكثر من ذلك سمح الرشيد للإمبراطور شارلمان بترميم كنائس المدينة، وتعهد الخليفة بحماية الحجيج من النصارى الذين يَفِدُونَ إلى بيت المقدس لزيارة أماكنِهم المقدسة.
وتبادلت وفودُ الرشيد ـ الذي كان يحكم أكبر ممالك الدنيا في هذا الزمان ـ ووفودُ شارلمان ـ الذي كان يحكم جزءًا كبيرًا من غرب أوروبا وجنوبها ـ تبادلت هذه الوفود الزيارات في رحلات طويلة ومتتابعة، وفي إحدى هذه الزيارات إلى بغداد منح أميرُ المؤمنينَ هارون الرشيدُ الوفدَ المسيحيَّ مفاتيحَ كنيسة القيامة ـ أكبر أثر نصراني في القدس ـ ليسلموها إلى سيدهم شارلمان.
الطولونيون والسيطرة على القدس:
بعد انقضاء عصر الخلفاء العباسيين العظام، بدأت سيطرة خلفائهم على الدولة تضعف، وكان ذلك بعد انقضاء قرن واحد من عمر الدولة، أي في سنة مائتين واثنتين وثلاثين، ومن هنا كثُرت انشقاقاتُ القادة واستقلالُهم عن الدولة، وأصبح ذلك غير قاصر على الأطراف، وإنما امتد ليصل إلى القلب، حتى صار مقام الخليفة يشبه المنصب الشرفي في كثير من الأحيان.
ومن القادة الذين اجترءوا على الاستقلال ببعض أجزاء الدولة أحمد بن طولون، الذي كان أبوه رجلاً تركستانيًا اصطفاه المأمون في الخدمة، حتى صار قائدًا للحرس الخلافي. وورث أحمد عن أبيه القرب من العباسيين، واستغل فرصةَ ضعف الدولة، فاستقل بمصر، وسيطر معها على الشام، وأقام دولة لأسرته، يتوارثون فيها المُلك عن بعضهم بعضا.
وقد سيطر ابن طولون على القدس عام مائتين وخمسة وستين من الهجرة، ووطد سلطانه في الشام، بعد أن وطده في مصر.
وفي عهد ابن طولون عانى نصارى بيت المقدس من بعض المتاعب، فقد مُنعوا من لبس الدروع إلا بشروط، وحُظر عليهم ركوبُ الخيل.
كما وقع خلاف حاد بين بعض القبائل العربية المقيمة في فلسطين، فاقتتل بنو لخم وبنو جذام في عهد ابن طولون قتالاً شديدًا.
لقد كان وضع القدس في فترة الحكم الطولوني خاملاً بوجه عام، حتى خرجت من أيديهم بعد حكم دامَ سبعةً وعشرين عاما فقط، وبعدها بقليل دخلت المدينة تحت سلطة الإخشيديين.
القدس تحت سلطة الإخشيديين:
بعد ضعف أمر الطولونيين، عيَّنَ الخليفة العباسيُّ "القاهرُ بالله" فارسًا وقائدًا يدعى محمد بن طغج واليًا على مصر والشام سنة ثلثمائة وسبع وعشرين للهجرة، وتلقب بـ "الإخشيد"، لكنه استقل بالمنطقة تحت سلطانه، وكون دولة يتوارث أبناؤه الملك فيها.
وكانت لهذه الدولة علاقة قوية بالقدس، تدل على مكانتها الخاصة في نفوس أمرائها، فقد سيطر محمد بن طُغج الإخشيد عليها وعلى جميع الشام سنة ثلثمائة وثلاثين للهجرة، وبعدها بأربع سنوات حضرته الوفاة في دمشق، فأوصى بأن يدفن في القدس، وقيل إنه توفي في القدس ودفن فيها أيضا.
وتتابع أمراء الإخشيديين بعد مؤسس الدولة، وكلهم يعشق تراب القدس، ويوصي عند حضور أجله بأن يدفن فيها، حدث ذلك مع أنوجور بن محمد الإخشيد سنة تسع وأربعين وثلثمائة، وتكرر مع أبي الحسن بن محمد الإخشيد سنة أربع وخمسين وثلثمائة للهجرة، حيث دفن إلى جوار أبيه وأخيه في تراب بيت المقدس.
وجاء كافور الإخشيدي، وكان من رجال الدولة من خارج البيت الحاكم، فسيطر على شئونها، وخُطب له فوق منابر القدس ومصر والحجاز والشام والثغور، لكنه لم يلبث أن توفي هو الآخر سنة خمس وخمسين وثلثمائة، ودفن في ثرى بيت المقدس.
ويسجل التاريخ أن والي بيت المقدس أيام كافور، ويسمى محمد بن إسماعيل الصُّنْهَاجِيّ، خالف سنة المسلمين في معاملة أهل الكتاب، فأحرق أتباعُه كنيسة القيامة، حتى سقطت قبتها، ونهبوا "كنيسة صهيون" وأحرقوها، وكانت لليهود في ذلك يَدٌ، حتى هدموا وخربوا من ممتلكات النصارى في القدس أكثر مما فعل الوالي وأتباعه.
وبوفاة كافور انهارت الدولة التي لم تجد رجلاً قويًا من البيت الإخشيدي يضبط شئونها، فحل الفاطميون محلهم، وسيطروا على مصر والشام والحجاز.
القدس تحت سيطرة الفاطميين:
أُتيح للعديد من الاتجاهات الشيعية أن تقيم لنفسها دولا في فترات مختلفة من التاريخ الإسلامي، كالزيدية في اليمن، والصفوية في إيران، والفاطمية في القاهرة .. إلا أن الأخيرة هي أشهر هذه الدول، وقد قامت على أشد المذاهب الشيعية تطرفًا، وهو المذهب الإسماعيليّ، وبدأت مسيرتها من المغرب، ثم زحفت شرقا حتى دخلت مصر والشام، وجنوبا حتى استولت على الحجاز واليمن..
وأُتيح للدولة الفاطمية أن تكون إحدى الدول التي عاشت القدس في كنفها زمنا، فاستولوا على المدينة المقدسة سنة ثلثمائة وتسع وخمسين للهجرة، وخُطب من فوق منابر القدس للخليفة الفاطمي دون خلفاء بني العباس القابعين في بغداد، وسعى الفاطميون إلى نشر دعوتهم وبث دُعاتهم في القدس، وأنشأوا دارا علمية لهذا الغرض، على شاكلة دار الحكمة التي شيدوها في قلب القاهرة؛ لنشر مذهب الدولة وتأصيله في مصر.
واهتم خلفاء الفاطميين بمتابعة إعمار المسجد الأقصى عند تعرضه للزلازل وما شابهها، كما كانت لهم سياسات متضاربة تجاه نصارى بيت المقدس ومقدساتهم.
وقد حفظ لنا التاريخ أوصافا ذات قيمة كبيرة لمدينة القدس في ظلال الحكم الفاطمي.
وبعد أكثر من قرن من التواجُد الفاطمي في القدس، جاءت الدولة السُّلْجُوقِيّة الفَتِيَّة سنة أربعمائة وثلاث وستين لتزيح الفاطميين عن المدينة المقدسة، حيث أُعيدت الخطبة فيها باسم الخليفة العباسي.
ودخل الفاطميون والسلاجقة في نزاع ساخن على القدس والمنطقة، مما أدى إلى إضعاف قوى الطرفين، ومُنع الحج المسيحي إلى القدس زمنا وهو الأمر الذي استغلته الدعاية الصليبية لشن الحرب على المنطقة.
وإذا كان الخليفة الفاطمي المستعلي قد أفلح في استرداد القدس من يد السلاجقة سنة أربعمائة وتسع وثمانين للهجرة، فإنها لم تمكث في يده طويلا، حيث سقطت أمام الإعصار الصليبي في شعبان من سنة أربعمائة واثنتين وتسعين، وخرجت لأول مرة من يد المسلمين منذ الفتح العمريّ لها.
موقف الفاطميين من نصارى القدس:
لم تكن أفعال الحاكم بأمر الله مصدر معاناة للمسلمين وحدهم، بل ألحقت أضرارًا كثيرة بأهل الذمة أيضًا، فهذا الحاكم المتناقض كان يتخذ القرارات الغريبة، ثم يُتبعها بما يناقضها، حتى لم تعد الرعية تدري ساعاتِ رضاه من ساعات غضبه!
تجرأ الحاكم وزاد، لأول مرة، على الوثيقة العمرية التي تضمنت شروط الصلح مع أهل بيت المقدس، وتعسف في هذه الزيادة، فاشترط على النصارى "تعليق الصلبان على صدورهم، وأن يكون الصليب من خشب زنته أربعة أرطال، وعلى اليهود تعليق رأس العجل زنته ستة أرطال. وفي الحمّام يكون في عنق الواحد منهم ـ من اليهود والنصارى ـ قِرْبةٌ زنة خمسة أرطال، بأجراس، وألا يركبوا الخيل".
ولم يقف الحاكم عند هذا الحد من الاشتداد في معاملة أهل الذمة، فأمر في سنة ثلثمائة وثمان وتسعين بتخريب كنيسة القيامة، "وأباح للعامة ما فيها من الأموال والأمتعة"، و "أرغمهم على لبس السواد، ومنعهم من الاحتفال بعيد الشعانين".
واستغل الحاكم الشروط الصعبة التي زادها على النصارى، فنُودي في القدس وغيرها من أنحاء الدولة: "من أحب الدخول في دين الإسلام دخل، ومن أقام منهم على دينه فليلتزم بما شُرط عليهم".
وفي انقلاب مفاجئ التزم الحاكم جانب الرفق والمسامحة في معاملة نصارى بيت المقدس وغيرهم، ورفع ما زاده عليهم من شروط، وسمح لهم بتعمير كنيسة القيامة، بل قيل: إنه عمرها على نفقته الخاصة، وأَذِنَ لمن أسلم منهم مُكْرَهًا أن يعود إلى دينه إن شاء.
وقيل إن الحاكم ظل على اضطهاده لأهل الذمة، لم يخفف عنهم إلا قليلاً حتى هلك، فلما تولى ابنه الظاهر سنة إحدى عشرة وأربعمائة، سمح للناس بأن يرجعوا إلى عقائدهم، ويبنوا كنائسهم التي هدّمت.
كانت هذه هي سيرة الحاكم بأمر الله في نصارى الذمة ببيت المقدس، في حين كانت لأبيه العزيز بالله معهم سيرة أخرى، فقد صاهر بطريرك بيت المقدس، وأقام على فلسطين والقدس واليًا نصرانيًا، هو: أبو اليمن قزمان بن مينا الكاتب، الذي انقلب على الدولة، وهرب بمال كثير حين وقع القتال بين الفاطميين وجنود الشام.
ومما أصاب المسلمين في عهد الحاكم بن العزيز من أفعال غريبة، أنه فرض على الناس إذا ذكر الخطيب اسم الحاكم يوم الجمعة على المنبر، أن يقوموا صفوفًا إعظامًا لاسمه، وعمَّمَ ذلك في مملكته، حتى في الحرمين الشريفين وبيت المقدس.
وصف القدس في زمن الفاطميين:
بدت القدس الفاطمية في أعين الرحالة مدينة كبيرة، معتدلة الجو: ليست شديدة البرد، ولا شديدة الحر.. بناياتها من الحجر الجيد، قد أُتقن تشييدها إتقانًا، وامتاز عيشها بالطيب، وأهلها بالعفاف. وأرضها مبلَّطة بالحجارة، وحين ينزل المطر يغسلها غسلاً.
وماء بيت المقدس أعذب وأنقى من أي ماء آخر، إذْ يأتي من المطر مباشرة ومن العيون، وعلى بعد ثلاثة فراسخ من المدينة وضع صهريج كبير ينحدر إليه ماء المطر من الجبل ويتجمع فيه، وأوصلوا هذا الماء إلى المسجد الأقصى في قناة، وجعل الناس في بيوتهم أحواضًا لجمع ماء المطر لحاجاتهم ومعايشهم، وحتى حمَّامات المدينة نفسها، اعتمدت في مائها على هذا الماء الذي ينزل من السماء.
ومن العيون المقدسيّة التي تجود بالماء العذب، عينُ سلوان التي تنبع من الصخر، وقد أقيمت عندها في هذا الزمن بنايات كثيرة.
وكما في كل زمان، شغل المسجد الأقصى قطب الرحَى الذي تدور المدينة حوله، وقد اعتنوا بأن يكون لكل مَحِلَّة باب يؤدي بها إلى المسجد المبارك، فبلغ عدد الأبواب تسعة، مثل: باب النبي بالجدار الجنوبي بجوار القبلة، والباب الشرقي المسمى "باب العين" الذي يؤدي إلى منحدر فيه عين سلوان...
وبدا المسجد الأقصى وسط بنايات المدينة كبيرًا، وكثرت مشاهد الصالحين وقبورهم في المدينة المباركة، كما بدت سوق القدس نظيفة منظمة، تزاول فيها أعمال البيع والشراء بصورة حسنة.
وكان "في بيت المقدس حينئذ - مستشفي عظيم، عليه أوقاف طائلة، ويصرف لمرضاه العديد من العلاج والدواء، وبه أطباء يأخذون مرتباتهم من الوقف".
وبالرغم من كثرة سكان المدينة في هذا الوقت، أكثر من عشرين ألفًا، فقد كانت مقصودة للزيارة من غير أهلها، وفيها الحاذقون من الأطباء، والمهرة من الصناع، الذين انفردت كل طائفة منهم بسوق خاصة بها.
لكن المدينة كانت لا تخلو من عيوب في عيون من رآها في هذا الزمن (القرن الرابع الهجري) ـ على عكس حالها في أغلب تاريخها الإسلامي ـ فحماماتها قذرة، وعلماؤها قليلون، وفقهاؤها مهجورون، يقل قاصدوهم من طلبة العلم، وأدباؤها لا يجدون من يشهد إبداعهم، والسلع غالية لما يفرَض عليها من الضرائب. كما أنه "ليس للمظلوم فيها أنصار"!