الاحتلال الصليبي لبيت
المقدس:
في الوقت الذي جاء فيه الصليبيون إلى القدس،
لم يكن ممنوعًا على أي مسيحي من أنحاء الدنيا أن يأتي إلى المدينة المقدسة ليحج إلى
المواضع التي يقدسها، ككنيسة القيامة، وكنيسة المهد، وكنيسة ستنا مريم، بل كان
الطريق دائما مفتوحًا وميسرًا أمامه، سواء أتى من صقيع أوروبا أو من البلاد القريبة
المحيطة ببيت المقدس.
وقد أتى بطرس الناسك من جنوب القارة الباردة
البائسة حينئذٍ أوروبا، في هيئةٍ رَثَّةٍ، يركب حمارًا، مخترقًا الطريق نحو بيت
المقدس، وهناك قضى مناسكه وأدى طقوسه الدينية، وكانت كنيسة القيامة التي خربها
الحاكم قد أعيد إعمارُها، فزارها، ولكن قلبه بدلاً من أن يرجع شاكرًا لهؤلاء الذين
أتاحوا له فرصة الحج إلى المواضع التي يقدسها، رجع بشيء آخر.
اغتاظ بطرس الناسك ـ وهو رجل دين مسيحي غربي
ـ من وقوع كنائس المسيحية وأماكنها المقدسة تحت سيطرة المسيحيين العرب الذين
يخالفونه في المذهب والنظرة إلى المسيح، وزاد من غيظه وحقده أنْ تقع مدينة بيت
المقدس، مدينة المسيح، تحت سيطرة المسلمين الكفار ـ في رأيه!
وفي طريق العودة راح بطرس الراهب في نوبة من
التفكير العميق، حتى شُغل عن رفاقه من الحجيج، وتقلبت في رأسه أفكار وأفكار، حتى
قرر أنه لابد من السيطرة على بلد المسيح، وأفضل طريق إلى ذلك تحريض الكنيسة لأوروبا
وملوكها على غزو الشرق الإسلامي، وهو التحريض الذي قام به البابا أوربان الثاني
منطلقًا من فرنسا.
واستمعت أوروبا إلى خطاب البابا، وتردد
صداه في كل أنحاء القارة، واجتمع له الملوك وأصحاب النفوذ، وأعدوا جحافل من القوات
والمقاتلين، حتى هبطوا على بلاد الإسلام في الحملة الصليبية الأولى، التي نجحت في
الاستيلاء على بيت المقدس سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وأقامت إمارة بيت المقدس
الصليبية.
وفشل المسلمون في صد العدو الزاحف من الغرب
لأسباب عديدة، وجاءت الهزيمة نذيرًا شديدًا لهم، ولم يَطُل الزمن حتى تنبه أُولُو
الغيرة والدين من المسلمين إلى خطورة الوضع، وسعوا إلى دحر الصليبية، واستخلاص بلاد
المسلمين من بين أيديها.
تحريض الكنيسة للأوروبيين:
لم يكن يخفَى أن هنالك مضايقات تعرض لها حجاج
المسيحية إلى بيت المقدس أثناء الصراع الساخن بين السلاجقة والفاطميين للسيطرة على
بلاد الشام، حتى منع الحج المسيحي وتوقفت الزيارات فترة من الزمن ـ إلا أن الكنيسة
البابوية في فرنسا بالغت في تضخيم هذه الحوادث الطارئة، وقامت بحملة شعواء تحرض
فيها أوروبا على حرب الكفار من المسلمين!
ففي نوفمبر عام ألف وخمسة وتسعين للميلاد،
وقف البابا أوربان الثاني في كاتدرائية مدينة "كليرمونت" جنوب فرنسا يخطب في جموع
النصارى، يحرض أوروبا كلها ضد المسلمين فقال: "لقد دخلت الكلاب إلى الأماكن
المقدسة، وجرى تدنيس المقدسات، وإذلال الناس عبدة الرب.. كما أن كنيسة القيامة
تتحمل حكمهم، وقد دنستها قذارة الذين ليس لهم نصيب في القيامة..".
وزاد في دَغْدَغَة العواطف الملتهبة للجموع
من حوله، وقال: "سلِّحُوا، أيها الإخوة، أنفسَكم بغيرة الرب، وشُدُّوا أحزمة سيوفكم
على أوساطكم، أيها الجبارون .. فمِن الأفضل أن نستشهد من أن نرى مصائب قومنا ومصائب
أقداسنا...".
ودعا البابا الجموع المنصتة إليه، في لحظة
تاريخية خطيرة وفاصلة، إلى غزو الأرض التي تفيض "لبنًا وعسلاً" حتى تقوى عزيمة
الجميع في طلب الدنيا، إن لم تكن لديهم عزيمة لخدمة دينهم!
وقال بطرس الناسك: "إني نظرت قبر المسيح
محتَقَرًا مُهانًا، وزوَّارُه مضطهدون"، فنادى الحاضرون بالحرب قائلين: "الله يريد
ذلك"!
وراح أتباع البابا ينتشرون في الشارع
الأوروبي، يدعون الناس في خطاب مثير إلى إنقاذ الأرض المقدسة، واسترجاعها من يد
المسلمين الذين اغتصبوها، وأهانوا ما فيها من المقدسات ـ كما
أشاعوا…
وسار هذا الخطاب الدعائي، الذي لم يهتم
بالتزام الحقيقة، في أنحاء أوروبا، ووصلت مخاطبات البابا للملوك والأمراء في أوروبا
تحرضهم على الخروج مع الجموع الذاهبة لتخليص "بلد المسيح" ! فقد كانت القدس ـ كما
بدا ـ هي مقصدهم وهدفهم، لكن لعابهم سال للخيرات التي تمتلئ بها مدن الشام المحيطةُ
ببيت المقدس، فاحتلوا العديد منها أيضًا، وبدا أن وراء الحرب أهدافا أخرى
خفية.
دوافع الحروب الصليبية:
في دعوتها لشن الحروب الصليبية، نجحت
البابوية في تصويرها على أنها حرب مقدسة، لتخليص بلد المسيح من يد "الهمج"
المسلمين، وركَّز الخطاب البابوي على ذلك، مستغلاً العاطفة الدينية لدى نصارى
الصقيع الأوروبي.
لقد بدا الدين دافعًا ظاهريًا لشن "حرب
(أوروبية) مقدسة" ضد المسلمين، أخذت اسمها عند الأوروبيين أنفسهم من أحد الرموز
الكبرى في العقيدة النصرانية في الشرق والغرب، وهو الصليب.
لكن كان هذا هو الدافع الظاهر فقط، وإن كان
له تأثير ضخم في إشعال حماس العامة الذين دُعوا إلى الخروج للحرب في
الشرق.
أما الدوافع الحقيقية والعميقة لشن الحروب
الصليبية، فهي:
ـ توسيع سلطة البابا بالسيطرة على الأماكن
المسيحية المقدسة في الشرق، وإلغاءِ السيطرة المسيحية الأرثوذكسية هناك، ونجدة
البيزنطيين الذين تعرضوا لانكسارات وهزائم متعددة أمام السلاجقة، وهو أمر يتيح
للبابا قيادة الكنيسة المسيحية في كل مكان، حتى في الدولة
البيزنطية.
ـ شَغْلُ الأمراء والإقطاعيين الأوروبيين
بالحرب في الشرق، بدلاً من التقاتل الداخلي فيما بينهم.
ـ الانتفاع بما في الشرق من ثراء لإنعاش
الحياة الأوروبية، فالبلاد التي يتوجه إليها الغزاة الصليبيون تفيض "لبنًا
وعسلاً"!
الحملة الصليبية الأولى:
ما لبثت الدعاية البابوية لشن حرب شرسة في
الشرق، أن آتت أكلها، على مستوى الأمراء وعلى مستوى الجماهير، واتفقوا على الالتقاء
والتجمع في نقطة من الشرق الأوروبي على شواطئ بحر مرمرة وهي
القسطنطينية.
وخرجت الجموع عشرات الآلاف، من فرنسا
وإيطاليا والنمسا والمجر وألمانيا وبولنده، يقودهم الرهبان، وأمراء الإقطاعات
والممالك الأوروبية، وتقدم الجميع وسبقهم في طريق البر الراهب بطرس الناسك، يلبس
ثيابًا مهلهلة، ويسير حافي القدمين، ممسكًا بالإنجيل والصليب، وحوله حشود كبيرة من
الناس، فيهم الرجال والنساء والأطفال ـ خرج بهم من ألمانيا في مايو عام ألف وستة
وتسعين للميلاد (أربعمائة وتسعين للهجرة).
ولم يَبْدُ على بطرس ومن معه أنهم يصلحون
لخوض حرب ضد المسلمين، فما هم إلا رعاع وغوغاء دفعتهم الحماسة الكاذبة إلى ما لا
يطيقون، بل هم ـ على حد تعبير المؤرخين الغربيين: "جماعات من الأفاقين لا يَستحقون
مشاهدةَ قبر المسيح"!
وعبروا المجر وبلاد البلقان صوب القسطنطينية،
فنهبوا البلاد والقرى، ونال القسطنطينيةَ منهم شرٌّ كثير، "فأحرقوا القصور، ونهبوا
الكنائس". فبعث الإمبراطور البيزنطي إلى البابا قائلاً: "إن كنتم تريدون حقًا
الوصولَ إلى بيت المقدس، فابعثوا جيوشًا منظمة وفرسانًا مدربين".
ومن هنا بدأ الأمراء الأوروبيون يحشدون
قواتهم وجيوشهم المنظمة للذهاب إلى الشرق، ودخول بيت المقدس. وتتابعت الحشود في هذه
الحملة الصليبية الأولى، تسلك نحو بيت المقدس طريق البحر وطريق البر من وسط أوروبا
وسهول إيطاليا الجنوبية، وأحلام النصر تداعب خيالات الجميع، والجنة التي حدثوهم
عنها في بلد المسيح وما فيها من "العسل واللبن" تتراءى لخيالاتهم، وتختلف صورتها
الخيالية من شخص إلى آخر!!
ومن أمراء أوروبا الذين شاركوا في هذه
الحملة: الدوق جود فري دي بويُّون أمير اللورين السفلى، وأخوه اللورد بولدوين،
واللورد بوهيمُوند أمير تورنتو في جنوب إيطاليا، وريموند أمير تولوز، وروبورت أمير
نورماندي، وغيرهم.
وبدلاً من اللقاء في القسطنطينية، التقت
الجيوش الصليبية عند نيقية، التي استولوا عليها في يونيه سنة ألف وسبع وتسعين
للميلاد، بعد حصار دام شهرًا.
وتساقطت المدن في يد الحملة الصليبية الأولى
الواحدة تلو الأخرى، حيث سيطروا على مدن كثيرة قبل احتلالهم القدس وبعده، وهي:
الرها وأنطاكية (التي خرجت جماعات من مسلمي القدس ودمشق وحلب لإنقاذها) ومعرة
النعمان وانطرطوس وطرابلس وبيروت وصيدا وعكا وحيفا وقيسارية والرملة. وفي السابع من
يونيه سنة ألف وتسع وتسعين وصلوا إلى أسوار القدس، التي دخلوها بعد حوالي أربعين
يومًا من الحصار.
سقوط القدس في يد
الصليبيين:
"اللهُ يريد ذلك.. الله يريد ذلك"، هكذا
انطلقت الصرخات من أفواه جموع كبيرة، شُقْرِ الشَّعْر زُرْقِ العيون، يضعون على
الكتف الأيمن أو الكتفين صليبًا من قماش أحمر، وهم أهل الحملة الصليبية الأولى،
ويقصدون بصُراخهم أن الله يريد حرب المسلمين!
وهاهم في شهر رجب الفرد من سنة اثنتين وتسعين
وأربعمائة للهجرة، يقفون عند أسوار مدينة القدس المباركة في حر يونيو المرتفع،
ولُعابهم الجاف يسيل لدخولها! وعلى المدينة أمير من قِبَلِ الفاطميين (افتخار
الدولة) في مدينة حصينة، بصحبته أربعون ألف مقاتل، توافد أكثرهم على المدينة من
خارجها.
بدأ "افتخار الدولة" أعماله الدفاعية مع
اقتراب الزحف الصليبي، فردم العيون والآبار الواقعة خارج المدينة، ليمنع الصليبيين
من التزود من مائها، وحشد الجنود في مداخل المدينة الخطرة، ووضع الحراسة على الحصون
والأبراج، ليراقبوا أعمال الصليبيين لمواجهتها بسرعة، كما أعد الكمائن التي تتصيد
المنفردين من الصليبيين عن جماعتهم بحثًا عن الماء، أو بحثًا عن فرصة لاقتحام
الحصون المقدسية.
ودعم افتخار الدولة أبراج المدينة بأكياس من
القطن والخرق البالية، لتمتص عن الحصون صدمة الأحجار التي تقذفها المجانيق
الصليبية.
وحولَ الأسوار وزّع الصليبيون قواتهم في
الجهات التي يمكن اقتحام المدينة منها، خاصة في الشمال والشمال الغربي، لكن حرارة
الصيف في عام تسعة وتسعين وألف كانت سيدة الموقف، وصاحبة التأثير الكبير في سير
المعركة، حيث عجز الصليبيُّ الأوروبيُّ عن الصبر على حرارة الشمس التي لم يكن له
بها عهد، والعطش الشديد المصاحب لها. "ومما زاد في قلق الصليبيين أن المُؤَنَ بدأت
تنفد في المعسكرات، دون أن تتمكن قيادتهم من تأمين ما يمكن أن يسد حاجتهم لأمد
طويل".
لم يكن أمام الصليبين حل إزاء هذا الوضع سوى
المبادرة بالهجوم، فاندفعوا في ضراوة هائلة لاقتحام أسوار القدس المباركة، وبدأ
القتال عند فجر اليوم السادس للحصار، والمسلمون صابرون يدفعون عدوهم بكل ما يملكون
من القوة، ومع أن الصليبيين لم يستطيعوا اقتحام المدينة إلا أنهم سيطروا على سورها
الشمالي من الخارج، وافتقروا إلى أدوات تسلق الأسوار فرجعوا إلى مواقعهم ليستعدوا
لهجوم جديد.
قضى الصليبيون قرابة شهر في الاستعداد للهجوم
الحاسم، ومقاومة الانخفاض في معنويات جنودهم، الذين أرهقهم القتال والحر الشديد،
وقرروا الهجوم من نقطة صعبة من المدينة، إلا أنها أقل تحصينًا، وهو الجانب الشمالي
الشرقي من سور القدس، من باب دمشق غرباً، حتى باب الساهرة، فباب يهوشافاط شرقًا.
وركّز المهاجمون القتال على محورَيْنِ:
أحدهما من باب الساهرة باتجاه الحرم القدسي الشريف، والآخر من جبل صهيون باتجاه حصن
داود. واستطاع المقاتلون على المحور الأول بقيادة جودفري دي بويون اقتحام سور القدس
عن طريق برج متحرك، قربوه من السور، ثم قفزوا متتابعين من فوقه إلى داخل المدينة،
وهناك ارتكبوا مذبحة رهيبة في المسجد الأقصى، ثم فتحوا باب العمود أمام بقية
قواتهم، وواصلوا أعمالهم البشعة في المدينة.
وأما المحور الثاني، فقد لقي الصليبيون فيه
مقاومة أشد بقيادة حاكم المدينة "افتخار الدولة"، لكن نجاح أعمال المحور الأول حطم
هذه المقاومة، فسقطت المدينة المقدسة كلها في يد الصليبيين في يوم الجمعة الثالث
والعشرين من شهر شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، الخامس عشر من يوليو سنة تسع
وتسعين وألف. وعملوا منذ اللحظة الأولى للاحتلال على صبغ المدينة
بصبغتهم.
وكان سقوط القدس صدمة كبيرة في العالم
الإسلامي، ووقفت وراء الهزيمة أسباب عديدة.
تحصينات القدس قبل السقوط:
كانت القدس "من أضخم المعاقل والحصون في عالم
العصور الوسطى"، وقد اهتم كل من ملكها منذ القدم بتحصينها وتقوية أسوارها،
لحمايتها، ودفع طمع الطامعين عنها، وقد كان هذا سلاحًا مهمًا في يد المسلمين عند
الزحف الصليبي على المدينة المقدسة.
ظهر أنه ليس في استطاعة الصليبيين حصار
المدينة أو دخولها، إلا من جهتها الشمالية أو زاويتها الشمالية الغربية، وأما باقي
الجهات فبها مجموعة من الأودية الصعبة التي تستعصي على العبور، إذ يلف القدس من
الشرق والجنوب الشرقي وادي قدرون أو وادي جهنم، ومن الجنوب وادي الربابة، ومن الغرب
يلفها وادي تيروبيون.
وإضافة إلى هذه التحصينات الطبيعية، فقد قام
في منتصف السور الغربي من المدينة ـ الذي يسيطر على جزء كبير من محيط المدينة ـ
حصنُ داود المنيع. وكذلك الخنادق المحفورة خارج سور المدينة في الشمال والشمالين
الشرقي والغربي.
وأما ماء المدينة، فقد كان من المطر، لذا
كثرت في القدس الصهاريج التي يُجمَع فيها هذا الماء، وخُزِّن الكثير منه عندما علم
المسلمون بقدوم الصليبيين، استعدادًا لمقاومة حصار صليبي يُتوقع أن
يطول.
التواجد البشري في القدس قبل
سقوطها:
هبط الصليبيون على أسوار القدس، والمسلمون
فيها ستون ألفًا، أبوا أن يتركوا المدينة فريسة بين يدي الصليبيين بالرغم مما بلغهم
عن الفظائع التي ارتكبوها في زحفهم على الشرق الإسلامي.
بلغ تعداد سكان المدينة قبيل الاحتلال عشرين
ألفًا، معهم حامية من الجنود تقدر بألف مقاتل، ويقودها الأمير الفاطمي "افتخار
الدولة"، فلما أخذ الخطر يقترب من بيت المقدس، استيقظ الكثير من المسلمين في المدن
والحصون القريبة منها، فتوافدوا نحو المدينة لحمايتها في أعداد كبيرة، حتى بلغوا
أربعين ألفًا.
وقد كانت الروح المعنوية للمسلمين في المدينة
يشوبها شيء من التوتر، خاصة مع الانتصارات والمذابح الصليبية المتكررة في مدن
مجاورة. غير أن الجموع المسلمة في المدينة فضلت الصمود على النجاة الذليلة
بالأرواح، بل وفد الكثير من المجاهدين إلى القدس ليقدموا بين يدي الله
أعذارهم!
وأما المسيحيون من أهل القدس، فلم يفرض
"افتخار الدولة" عليهم قتال أهل ملتهم، فخرجوا من المدينة، وجنوا هم أيضا من ثمار
الاحتلال الصليبي المرة!
الاقتحام الوحشي للقدس:
"كان من المستحيل أن يطالع المرء كثرة القتلى
دون أن يستولي عليه الفزع، فقد كانت الأشلاء البشرية في كل ناحية، وغطت الأرض دماء
المذبوحين، ولم تكن مطالعة الجثث ـ وقد فارقتها رءوسها ـ ورؤية الأعضاء المبتورة
المبعثرة في جميع الأرجاء هي وحدها التي أثارت الرعب في نفوس جميع من شاهدوها، بل
كان هناك ما هو أبعث على الفزع، ألا وهو منظر المنتصرين أنفسهم وقد تخضبوا بالدماء
فغطتهم من رؤوسهم إلى أخْمَصِ أقدامهم، فكان منظرًا مروِّعًا بث الرعب في قلوب كل
من قابلوهم، ويقال إنه قتل في داخل ساحة المسجد وحدها عشرة آلاف من المارقين (يقصد
المسلمين!)، بالإضافة إلى أن القتلى الذين تناثرت جثثهم في كل شوارع المدينة
وميادينها لم يكونوا أقل عددًا ممن ذكرناهم".
"انطلق بقية العسكر يَجُوسُونَ خلالَ الديار
بحثا عمن لازال حيًّا من التعساء الذين قد يكونون مختَفِينَ في الأزقّة والدروب
الجانبية فرارًا من الموت، فكانوا إذا عثروا عليهم سحبوهم على مشهد من الناس،
وذبحوهم ذبح الشياه. وجعل بعض العسكر من أنفسهم عصابات انطلقت تسطو على البيوت
ممسكين بأصحابها ونسائهم وأطفالهم، وأخذوا كل ما عندهم ثم راحوا يقتلون البعض
بالسيف، ويقذفون بالبعض الآخر من الأمكنة العالية إلى الأرض فتتهشم أعضاؤهم،
ويهلكون هلاكًا مروعًا"!
هكذا وصف وليم الصوري ـ الأسقف والمؤرخ
الصليبي ـ بعض آثار قومه في القدس أثناء اقتحامهم لها. . لم يكن هنالك فرق كبير بين
اقتحام البابليين والرومان الوثنيين للقدس وبين اقتحام الصليبيين لها، سوى أن
الأخيرين ينسبون أنفسهم إلى ديانة سماوية، وإلى رسول كريم عاش حياته رفيقًا رقيقًا
زاهدًا، وهو عيسى ـ عليه السلام.
فبينما كان الصليب هو الرمز والخلفية التي
تدير الحدث، كانت أرض القدس ملونة بحمرة الدم القانية، وأشلاءُ المسلمين وأعضاؤهم
المقطعة في كل مكان تشبه لوحة سريالية رسمتها وحوش البرّية!
نجح الصليبيون في اقتحام أسوار المدينة قبل
شهر رمضان من سنة اثنين وتسعين وأربعمائة بأسبوع واحد، وسقطت المقاومة الإسلامية
أمامهم، وانتهى المسلمون عن القتال، بل فروا من أمام عدوهم فرارًا تعيسًا. ولم يكن
نبل الخلق هو الذي يحرك المنتصر الجديد، ففعلوا في المدينة الأفاعيل، حتى قتلوا
المسلمين في المسجد الأقصى، وأحْرَقُوا اليهود في داخل معبدهم.
ويكفي أن المدينة خلت تمامًا من المسلمين
واليهود عقب دخول الصليبيين لها، ولم ينج من المسلمين سوى أمير القدس الفاطمي
"افتخارالدولة" في بعض جنوده، حيث انضم بهم إلى جموع المسلمين المقاتلين في
عسقلان.
وبكت المدينة المباركة دما لقسوة الغزاة،
وشوقا إلى أيام عمر بن الخطاب فيها وفتح عمر لها!!
القوات الصليبية المهاجمة
للقدس:
قبل حلول فصل الصيف من سنة ألف وتسع وتسعين
كانت الحملة الصليبية الأولى قد حققت كثيرًا من أحلامها باستيلائها على نيقية
وأنطاكية والرها وغيرها، إلا أنها لم تكن قد وصلت إلى هدفها الأول، وهو بيت المقدس،
بالرغم من مرور أكثر من سنتين على بداية الحملة.
وقد شكل الصليبيون جيشًا قويًّا منهم، يتولى
مهمة الاستيلاء على القدس، تعداده أربعون ألف مقاتل، من أعمار مختلفة ذكورًا
وإناثًا، يقود جزءًا منه أمير النورماندي، ويقود الجزء الآخر أمير الفلاندر، ثم
جودفري دي بويون أمير اللورين، ثم قوات تانكرد ابن أخت بوهيموند أمير تورنتو،
وأخيرًا ريموند دي سان جيل أمير تولوز.
وكان هؤلاء القادة بقواتهم هم الذين نالوا
شرف ذبح المدينة المباركة وأهلها!! فتوزعت القوات لتخنق المدينة من الجوانب
الممكنة منها، وضربوا الحصار حولها، فتمركزت قوة في الجهة الشمالية ناحية باب
الساهرة، وقوة في الشمال الغربي جهة باب العمود أو باب دمشق، وأخرى في الشمال
الغربي أيضا عند زاوية المدينة الشمالية الغربية، وقوة رابعة في الغرب عند باب يافا
أو باب الخليل، وفي الجنوب تمركزت قوة أخرى على جبل صهيون وتجاه باب النبي
داود.
وقد كانت الروح المعنوية للقوات الصليبية
عالية، فقد حققوا انتصارات متتالية، انتزعوا فيها من المسلمين مجموعة من المدن
المهمة، كما قوَّى الروح المعنوية للحملة الصليبية أنهم على مقربة من بيت المقدس،
المدينة التي أحبوها لدرجة الهوس.
أسباب هزيمة المسلمين أمام
الصليبيين:
كان سقوط معرة النعمان وطرابلس وأنطاكية
وغيرها في يد الصليبيين نذيرًا كافيًا للمسلمين ليقوموا من رقدتهم، ويَحْمُوا القدس
بل يحموا ذاتهم من المَحْوِ والسقوط تحت أقدام الغزاة القادمين من الغرب، لكن يبدو
أن النوم كان أثقل من ذلك!!
وسقطت القدس بعد أخواتها مباشرة، في شعبان من
سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، لتكشف عن الأدواء القاتلة التي أصابت الجسد المسلم،
وأدت إلى الهزيمة المريرة!
لقد حكمت المطامع الشخصية كثيرًا من تصرفات
المسلمين حينئذ، وبدا رباط العقيدة واهيًا ضعيفًا، ووهنت صلة الناس بربهم، فصارت
الدنيا عندهم ـ إلا من رحم الله ـ هدفًا وغاية، يسعون للوصول إليه ولو ولغوا في
دماء إخوانهم!
وبدت الفرقة والتنازع لونًا لأغلب جوانب حياة
المسلمين في الجيل الذي تلقى الصدمة الصليبية الأولى، ليس على مستوى الحكام وحدهم،
ولكن على مستوى الأمة أيضًا، فما أكثر ما قال المؤرخون عن سنوات هذه الفترة: "فيها
وقعت فتنة بين السُّنَّة والروافض (الشيعة)، فأحرقت محالُّ كثيرة، وقتل ناس كثير،
وإنا لله وإنا إليه راجعون"!!
وفي القدس نفسها ـ كما يقول ابن المدينة
الرحالةُ المقدسيّ ـ لم يكن "للمظلوم أنصار، والمستورُ مهموم، والغني محسود،
والفقيه مهجور، والأديب غير مشهود، لا مجلس نظر ولا تدريس، وقد غلب عليها النصارى
واليهود، وخلا المسجد من الجماعات والمجالس".
هكذا بدت البنية العميقة للمجتمع المسلم
قابلةً للهزيمة بسهولة، وساعدها على ذلك مناخ الفرقة والتنازع العام، فالخلافة
العباسية عاجزة عن تجميع المسلمين تحت لوائها، والسلاجقة الذين حاولوا القيام بهذه
المهمة انشغلوا بالصراع مع الفاطميين في الشام وحول القدس نفسها، دون أن يتمكن أي
من الفريقين من تحقيق نصر حاسم. والخلافة الفاطمية كانت في مرحلة الاحتضار، خاصة
بعد سلسلة المجاعات والكوارث التي حلت بمصر في عهد المستنصر بالله
الفاطمي.
وحل بالمسلمين ارتباك وفقدان للأمن في أنحاء
دولتهم الكبيرة بسبب النزاع المستشري بين ملوكهم، ووصل أثر ذلك إلى أقدس رحلة
للمسلمين، وهي رحلة الحج، فقبل سقوط القدس في يد الصليبيين بخمس سنوات فقط "لم يحج
أحد لاختلاف السلاطين"، وفي العام التالي "لم يحج أحد من أهل
العراق"!!
القدس مدينة صليبية:
في نشوة الانتصار واحتلال القدس، شرب
الصليبيون خمور النصر، وسط أشلاء القتلى المسلمين وفي برك الدماء القانية، وقد بدت
هيئات الصليبيين مرعبة من دم الضحايا الذي أصاب ملابسهم وأسلحتهم. وكان ذلك ردا
عجيبا على سماحة الفتح الإسلامي وإنسانية الفاتحين المسلمين!!
وبعد شيء من الاستراحة، بَدَا للصليبيين أنهم
حققوا هدفَهم الأكبر بالاستيلاء على القدس، فأخذوا في التقسيم الإداري للأرض
الإسلامية التي سيطروا عليها، وأنشأوا إمارة صليبية في الرُّها، وأخرى في أنطاكية،
وثالثة في طرابلس. أما القدس فقد أقاموا فيها مملكة لاتينية تُحاكي الممالك القائمة
على البر الأوروبي، امتدت من لبنان حتى صحراء النقب والبحر الأحمر، وأميرها هو
جودفري دي بويون، الذي تَوَّجُوهُ في كنيسة القيامة، ولما توفي فيما بعد دفنوه
فيها.
لقد مكث الصليبيون في بيت المقدس حوالي تسعين
عامًا قبل تحرير صلاح الدين لها، فعملوا طوال هذه الفترة على صبغ المدينة بصبغتهم
النصرانية اللاتينية، فقام النظام الإداري على الإقطاع الغربي، مختلطًا بمزيج من
العسكرية والكنائسية، واتسع سلطان الإقطاعيين، حتى تجاوزت سلطاتهم واستقلاليتهم
المَلِكَ المتوج منهم، ودخل بعض هؤلاء في حروب ضد بعضهم الآخر.
وكانت القوات الصليبية في القدس أثناء
الاحتلال موزعة إلى فرقتين: إحداهما سماها المسلمون "بالداوية" ومهمتها قتال
المسلمين، وأما الفرقة الأخرى فهي "الاسبتارية"، وكانت مهمتها في البدء هي العناية
بالحجاج والمرضى المسيحيين، ثم تحولوا إلى القتال بجانب "الداوية" واتخذت الفرقتان
من المسجد الأقصى مقرًا لأعمالهما ومستودعًا لأسلحتهما، وفقد صفته
كمسجد.
وعمل الصليبيون طَوَال تواجدِهم في القدس على
تنصيرها، فعمدوا إلى المسجد الأقصى وحولوا قبة الصخرة إلى كنيسة، ووضعوا الصليب
فوقها، كما أنشأوا كنيسة القديسة حنة بين باب الأسباط وباب حطة، وكنيسة القديسة
مريم الكبرى، وكنيسة القديسة مريم اللاتينية عند مدخل سوق الدباغة، وكنيسة الداوية
جنوب كنيسة القيامة، وجمعوا أجزاء كنيسة القيامة تحت سقف واحد، وبنوا الكنيسة
المعروفة الآن بنصف الدنيا. ولا يزال أكثر هذه الكنائس قائمًا إلى الآن، شاهدًا على
التسامح الإسلامي العظيم، ذلكم النهج الذي لا علاقة له بالهمجية، ولا صلة له بالسلب
والنهب ولا التدمير والهدم!
وإمعانًا في تنصير الصليبيين للقدس، فإن
البقية الباقية من المساجد التي لم تُحوَّل كنائس "هُدِّمت لتفسح مكانًا لأبنية
مستحدثة حلت محلها" ـ كما يقول أحد الأساقفة.
كما وسع الصليبيون من المستشفى الذي شيده
الفاطميون من قبل، وشيدوا نُزُلاً بجوار هذا المستشفى.
ردود الفعل الإسلامية على سقوط القدس في
يد الصليبيين:
كأنهم كانوا في حلم، فإذا بهم في يقظة تامة،
وأمام واقع مر تمامًا !! لقد سقطت القدس في يد الصليبيين، وأضحى المسلمون في دهشة
عارمة، وحزن غامر، ماذا يصنعون، وقد تلطخت صفحتهم بعار تضييع القدس التي تسلمها عمر
بن الخطاب من يد أهلها قبل ذلك بأكثر من ثلاثمائة وست وسبعين سنة؟!
أما الخليفة العباسي المستظهر بالله ـ ابن
الحادية والعشرين ـ فرأى الناس يفرون مذعورين من الشام أمام الأعمال الوحشية
للصليبيين، طالبين الغوث من الخليفة ومن الملك السلجوقي، فحاول المستظهر أن يفعل
شيئًا، وشجع الفقهاء ليخرجوا محرِّضين لملوك المسلمين على الجهاد، فخرج أعيان
الفقهاء في الناس، فلم يفد ذلك شيئًا"!
إلا أن أجواء الفشل في العالم الإسلامي لم
تطل، إذ خرج الأمل من رحم الظلام الحالك، فجاءت جهود الزنكيين كالإعصار الذي لم يدع
للصليبيين فرصة يهنأون فيها بانتصاراتهم.
جهود الأسرة الزنكية في مقاومة
الصليبيين:
منذ وطئت أقدام الصليبيين أرض المسلمين
والمقاومة لم تنقطع، حتى رحلوا عن بلاد الإسلام نهائيًا في عهد سلاطين المماليك،
وقد اشتدت المقاومة خاصة عقب السيطرة الصليبية على القدس، حتى من جانب الفاطميين،
الذين حشدوا جيوشهم عدة مرات، وهاجموا الصليبيين، إلا أن الجهود الفاطمية فشلت
دائمًا.
أما السلاجقة فقد كان من نصيب بعض الأمراء
الأتابكة التابعين لهم أن نظموا لأول مرة المواجهات الحربية مع الصليبيين، حتى كان
ذلك انطلاقة حقيقية نحوالتحرير الإسلامي الذي لا يقف عند بيت المقدس، ولكن يشمل كل
شبر محتل من الأرض الإسلامية.
بدأ الأتابك آق سنقر البرسقيُّ أمير الموصل
العمل المنظم المثمر في مواجهة الصليبية في بلاد الإسلام، فاعتنى بتجميع القوى
الإسلامية عند مواجهة العدو الشرس، واستطاع أن يوحد الموصل وحلب، وضمن ولاء أمير
دمشق له، وقد كانت حلب محصورة قبل ذلك من الصليبيين ومهددة بالاجتياح، فخلصها
الأمير المجاهد سنة تسع عشرة وخمسمائة، وعزز قوة المسلمين فيها.
كانت هذه خطوة مهمة مهَّدت الطريق أمام عماد
الدين زنكي بن آقسنقر الحاجب، ليواصل طريق المواجهة على أساس واضح، وهو توحيد القوى
الإسلامية، ومحاربة الشتات الداخلي قبل البروز للعدو، واستطاع بذلك أن يقطع شوطًا
طويلاً في الطريق نحو بيت المقدس، حين أسقط الإمارة الصليبية العنيدة "الرها" سنة
خمسمائة وتسع وثلاثين للهجرة، وأضعف كثيرًا من قوة الصليبيين التي كانت تزداد
تضخمًا مع الزمن، كما قطع خطر هذه الإمارة القريبة من دار الخلافة بغداد، ومن أملاك
عماد الدين في شمال الجزيرة وحلب.
وجاء نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي
مواصلاً طريق والده الشهيد، وكان الهدف البعيد الذي يخطط للوصول إليه هو بيت
المقدس، التي صمم لها منبرًا نادرًا من خشب الأبنوس، ليوضع في مسجدها عند التحرير.
وكان "يرسل الفدائيين إلى بيت المقدس، ليجوسوا خلال الديار، ويأتوه
بالأخبار".
وإذا كان أمل نور الدين في الوصول إلى القدس
لم يتحقق، فإنه قطع شوطًا أطول من أبيه عماد الدين، في الطريق إلى بيت المقدس، وذلك
أنه قوَّى الجبهة الإسلامية بضم دمشق إليه سنة خمسمائة وتسع وأربعين، ومصر سنة
خمسمائة وأربع وستين، كما قضى على جزء كبير من الحملة الصليبية الثانية، واسترد
الرها بعد أن استولى عليها الصليبيون عند وفاة أبيه، وكسر أمراؤه الصليبيين الفرنج
في مصر، حتى يئسوا من الاستيلاء عليها، واستعاد من الفرنج أكثر من خمسين
مدينة.
وظل نور الدين يجاهد العدو، ويقوي جبهة
المسلمين، ويعالج الأدواء الداخلية، حتى توفي سنة تسع وستين وخمسمائة، وهو ابن ثمان
وخمسين سنة.
وكان صلاح الدين واحدًا من أمراء الدولة
الزنكية قصيرة العمر، واصل الجهاد بعد نور الدين محمود، حتى التقط الدرة المقدسة،
وحرر مدينة بيت المقدس من أنياب الصليبية