سيطرة الفرس على بيت
المقدس:
في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، وبعد أن
أزال الإمبراطور الفارسي قورش مُلْكَ البابليين، راح الفرس يبسطون سلطانهم على
المواضع المهمة من العالم المحيط بهم، وكانت دولتهم فَتِيَّةً تملك من أسباب القوة
ما يمكّنها من ذلك، كما كان سلطانُها الكبير قورش يسلك سبيل الرفق مع خصومه، على
النقيض من سابقِيهِ من الآشوريين والبابليين الذين لم يقتصروا على الشدة مع أعدائهم
في ساحات الحرب، بل اشتدوا أيضا في مواجهة الشعوب بعد فتح الدول والاستيلاء على
المدن.
وقد كان قورش أحد الفاتحين التاريخيين لبيت
المقدس، فقد اتخذ قرارًا ذا أهمية خاصة في تاريخ اليهود، وهو السماح لهم بالعودة من
السَّبْيِ إلى بيت المقدس، بعد أن مزق البابليون جموعهم، لكن كثيرا من الإسرائيليين
كانوا قد كيّفوا حياتهم مع الواقع الجديد، واستقرت أوضاعهم في بلاد ما بين النهرين،
وفضلوا البقاء في المنازل الهادئة التي أقاموها على شواطئ دجلة. إلا أن القلة التي
عادت إلى المدينة المقدسة أعادت بناء سور المدينة وبيت العبادة من
جديد.
ومع أن الفرس قد غادروا المدينة ومدنا أخرى
كثيرة غيرها أمام زحف الإسكندر المقدوني الكاسح، إلا أنهم عادوا إليها، والرسول
محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مرحلة دعوته في مكة، وذلك بعد الانتصار الكاسح الذي
حققوه في مواجهة البيزنطيين سنة 614 من الميلاد، وعاد الفرس ليلقوا هزيمة مريرة
أمام الحشود الهائلة التي قادها هرقل بعد هذا التاريخ بثلاثة عشر عاما، حيث سيطر
الروم البيزنطيون على بيت المقدس بضع سنوات، انتهت بالفتح العُمَرِيّ للمدينة
المقدسة سنة ست عشرة من الهجرة.
اليونانيون ووجود قلق في
القدس:
الإسكندر الأكبر أو الإسكندر المقدوني، أحد
القادة الكبار في التاريخ البشري، شرَّق بقواته وغرَّب فاتحا للبلاد والمدن،
واستولى بقواته، وهو في مَيْعَةِ شبابه، في القرن الرابع قبل الميلاد، على مساحات
واسعة من الأرض المعمورة حينئذٍ، فكون إمبراطورية لها ممتلكات في كل قارات العالم
القديم: أوروبا وآسيا وإفريقيا.
وكان من قدر مدينة بيت المقدس أن تقع في يد
هذا القائد الكبير، الذي أزال دولة الفرس، حين هزم دارا الثالث بالقرب من نهر
إيسوس..
وقد سار الإسكندر في معاملته لليهود سير
سابقِيه من الفرس، فمال إلى الرفق بهم؛ إذ استطاع أحد أحبار اليهود أن يؤثر عليه،
وينال رضاه.
وعلى الرغم من ذلك فقد ضعفت أهمية بيت المقدس
في هذه الفترة؛ إذْ كانت القوافل التجارية تمر بالمدن القريبة منها، دون أن تكون في
حاجة إلى الذهاب إلى أورشليم التي تفتقر إلى المواد الخام التي تعتمد عليها
التجارة.
واختطف الموت الإسكندر سنة 322 قبل الميلاد،
وهو في شرخ شبابه، وكان قد مر على فتحه للقدس عشر سنوات فقط.. فانفتح بموته بابٌ
لصراعٍ مرير بين ذوي النفوذ في دولته؛ إذْ لم يتركْ لخلافته سوى طفل صغير، كان
تولّيه إيذانا بقيام المعارك والصراعات الطاحنة بين أصحاب النفوذ في جميع أنحاء
إمبراطورية الإسكندر، و"تعرضت أرض يهوذا ـ وعاصمتها أورشليم ـ باعتبارها منطقة عبور
مركزية للقوات المتصارعة ـ للغزو المتواصل من الجيوش السائرة من آسيا الصغرى إلى
سوريا أو مصر، تحمل أمتعتها ومعداتها وعائلاتها وعبيدها. وفُتحت أورشليم ست مرات
على الأقل في تلك السنوات".
تأرجحت السيطرة على القدس في هذه المرحلة بين
طائفتين من اليونانيين هم: البطالمة والسلوقيون، فأخذ بطليموس الأول الذي سيطر على
المدينة سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة قبل الميلاد ـ ينفي اليهود خارج القدس، ونقل
الكثير منهم إلى الإسكندرية.
ومالت الكفة إلى السلوقيين سنة 275 قبل
الميلاد، فاستولوا على بيت المقدس، ثم عاد البطالمة من جديد واستولوا على المدينة
المقدسة سنة 199 قبل الميلاد، فدمر اليونانيون بيت العبادة الإسرائيلي، وكثيرًا ما
كانوا يستدرجون اليهود إلى يافا، ويغرقونهم في مياهها، وازدادت الهجرات اليهودية
إلى مصر والشمال الإفريقي وبلاد ما بين النهرين خلال هذه الفترة.
وقد جعلت هذه الأحداث الدامية اليهود أكثر
ميلا إلى الحكم السلوقي، فعاونوه ضد البطالمة والمصريين (الذين كانوا خاضعين للحكم
البطلمي أصلا)، فعادت أورشليم تابعة للسلوقيين من جديد، وخفف أنطيخوس السلوقي
الضرائب عن اليهود، واهتم بعمارة المدينة وتدعيم حصونها، حتى ازدهرت أورشليم، وصارت
مدينةً فخمة معمورة بالسكان.
ولم يمر وقت طويل حتى اقتحم المدينةَ غازٍ
جديد، هو أنطيوخوس أبيفانس الحاكم اليوناني في سوريا، وذلك حوالي سنةِ مائة وسبعين
قبل الميلاد، فنهبها وذبح الكثير من سكانها، ثم أرسل قائده أبولونيوس ليواصل عمله
في تدمير المدينة ومعبدها، مما نتج عنه ثورة يهودية عارمة سنة ثلاث وستين ومائة،
تسمَّى ثورة المكابيين، التي نجح اليهود فيها في طرد اليونانيين من بيت
المقدس.
الرومان في القدس:
الروم البيزنطيون من الأمم التي كان وجودها
في بيت المقدس بارزًا وطويل المدى، فقد استعمروا المدينة، وسيطروا عليها قرابة
سبعمائة عام..
فقبل الميلاد بحوالي ستين عامًا، وقع الخلاف
بين أصحاب السيطرة من اليهود في بيت المقدس، فانقسموا فرقا، وطلب بعضهم العون من
الرومان القريبين، فأقبلت جحافل الرومان الغازية يقودهم بومبي حتى ضربت الحصار على
بيت المقدس، ووقفوا بأسوار المدينة حتى اقتحموها بمهارة عالية، مستخدمين أدوات
الحصار والاقتحام من المجانيق ورءوس الكباش وأبراج الحصار، وقُتِلَ اثنا عشر ألف
يهودي في المذبحة التي ارتكبها الرومان عقب دخولهم المدينة.
وطوال فترة التواجد الروماني في بيت المقدس،
جرت هناك أحداث تمثل علامات بارزة في تاريخ المدينة المقدسة، ففي بداية الاحتلال
الروماني قام اليهود بثورة واضطرابات عديدة ضد الغزاة، فقاد الحملة عليهم حاكم
سوريا الروماني "لوقيانوس كراسوس"، الذي دخل المعبد ونهبه.
والغريب أن القائد هيرود الآدومي الذي قاد
حملة قاسية ضد اليهود قبل ميلاد المسيح بحوالي أربعين عاما، عاد ليعطي اليهود نوعا
من الحرية الدينية، وسمح لهم بإعادة بناء بيت عبادتهم. وأثناء ولايته على القدس
والجليل اهتم هيرود بإعادة تخطيط المدينة، ودعّم حصونها، وزودها بأبراج الحراسة،
خاصة في الغرب والشمال الغربي، تأمينا للمواقع الضعيفة منها.
وكان هيرود قد غزا المدينة، منتهزا فرصة
تنازع الأمراء المكابيين اليهود على ما تبقى لهم من سلطة عشائرية تخص الطائفة
اليهودية، مثل: تحصيل الزكاة، والقضاء بينهم، وتنفيذ أحكام التوراة
فيهم.
وبقى من العلامات البارزة في التاريخ
الروماني لبيت المقدس أيضا: مولد المسيح عليه السلام، وطرد اليهود من بيت المقدس
على يد تيطس ثم هرقل، واتخاذ المسيحية بتفسيرها الخاص ديانةً رسمية للدولة
الرومانية، وإعادة بناء بيت المقدس على الطريقة الرومانية حاملة اسمها الجديد
إيلياء.
مولد المسيح في ظلال الحكم
الروماني:
مثّل عيسى ابن مريم ـ عليه السلام ـ الفرصة
الأخيرة أمام بني إسرائيل للعودة إلى الله ـ تعالى ـ وترك المعاصي التي أَورثتْهم
الذلَّ، وأوقعتْهم ـ بصورة متكررة ـ فريسة منتهكة بين أظافر أمم مختلفة وأنياب شعوب
متباينة.
وقد جاء ميلاد هذا النبي الكريم في بيت لحم
التابعة لبيت المقدس، معلنا عن واحدة من المعجزات المؤيدة له، والمؤكدة لصدقه، حتى
قبل أن يستغني عن ثدي أمه الطاهرة، فوُلد ـ عليه السلام ـ من أم عذراء لم يمسسْها
بشر، وتكلم في المهد مثبتًا المعجزة الظاهرة القاهرة.
وبدلا من أن يكون إرسال هذا النبي الكريم
فرصة يستغلها بنو إسرائيل للخروج من الاستعباد الروماني، بالانقياد لأوامر النبي
وطاعته ـ إذا بهم يقفون في الصفوف الأولى التي تحارب عيسى ـ عليه السلام ـ وتسعى
إلى قتله، كما قتلوا كثيرًا من الأنبياء السالفين، وتعاونوا في تلك المحاولة الآثمة
مع السلطة الرومانية القائمة، خشية أن ينتزع عيسى ـ عليه السلام ـ شرفَ السلطة
الدينية من يد الكهنة اليهود. وكان القيصر في هذه الفترة هو: كلوديوس، ووالي بيت
المقدس الرومي هو: بيلاطس.
ومع أن الله ـ تعالى ـ قد نجَّى نبيه الكريم
من المؤامرة الدنيئة، إلا أن الفرصة لم تتكرر بهذه الصورة أمام بني إسرائيل للخروج
الكريم من الاستعباد والاضطهاد، خاصة مع الاضطهاد الكبير الذي تعرض له أتباع عيسى ـ
عليه السلام ـ بعد أن رفعه الله إليه.
وبقي المسيح ـ عليه السلام ـ أحدَ أهم
الشخصيات المرتبطة بالمدينة المقدسة، خاصة أنه خاتمة أنبياء بني إسرائيل، وليس بينه
وبين رسول الله محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ رسولٌ ولا نبي.
الرومان وطرد اليهود من بيت
المقدس:
صَبَّتْ أحداث الزمن الروماني في بيت المقدس
في اتجاه تفريغ المدينة من اليهود، حتى جاء الفتح الإسلامي للمدينة وليس فيها
يهودي. ومن المناسبات الكبيرة التي طُرد فيها اليهود من بيت المقدس ما جرى عام
سبعين من الميلاد على يد الحاكم الرومي القوي تيطس، الذي دمر المدينة. ثم طُرد
اليهود بالكامل منها سنة خمس وثلاثين ومائة من الميلاد.
وحينما أقبلت جحافل الفرس في القرن السابع
الميلادي من المشرق، تزحف على ممتلكات الروم البيزنطيين، استولوا على بيت المقدس
ضمن ما استولوا عليه، ووقف اليهود حينئذ بجانبهم، وشاركوهم في التنكيل بالرومان.
وحين نجح هرقل في دحر الفرس عند نينوى، وأجلاهم عما احتلوه، وأزاحهم عن بيت المقدس،
كان لابد له أن يصفِّي الحساب مع اليهود، ونفَّذ ذلك بصورة قاسية، حيث قتل من
اليهود أعدادًا كبيرة، وفرَّ كثيرون تحت سِيَاطِ الاضطهاد والتنكيل، وصارت بيت
المقدس خالية من اليهود تماما.
وهكذا نتج عن السحق المتكرر لليهود باليدِ
الرومانية الباطشة، تدمير المدينة على يد القياصرة، وأجليت عنها أعداد كبيرة من
اليهود، ونُكّل بالكثير منهم، وجرى لهم شتات عام، وضعفت البنية السكانية اليهودية
في عموم أرض فلسطين بسبب كثرة القتلى والفارين من وجه الرومان.
وقد حرص أهل بيت المقدس عند الفتح الإسلامي
لها على اشتراط أن لا يدخل اليهود المدينة المقدسة، حينما صالحوا أمير المؤمنين عمر
بن الخطاب على تسليم المدينة المباركة للمسلمين عام ستة عشر من الهجرة
النبوية.
تَنَصّر الدولة الرومانية وتأثيره في بيت
المقدس:
لم يُتَحْ لدعوة المسيح ـ عليه السلام ـ
أنصار كثيرون في الفترة التي قضاها على الأرض قبل سعي اليهود والرومان إلى قتله،
وإنْجاء الله ـ تعالى ـ له. إلا أنه بعد هذا الحادث بما يزيد على قرنين ونصف من
الزمان، قامت دولة كبرى بإعلان اتباعها لدين المسيح، وإن كان ذلك بتفسير خاص لرسالة
المسيح ـ عليه السلام ـ وتلك هي الدولة الرومانية نفسها، التي أعلن إمبراطورها
قسطنطين عام ثلاثة عشر وثلاثمائة من الميلاد أن المسيحية هي الديانة الرسمية
لدولته، حسب التفسير الذي جاء به شاول المشهور ببولس الرسول.
وقد كان لهذا الحدث تأثير كبير في مجرى تاريخ
مدينة القدس، فلأول مرة أصبحت تحت سلطة تعلن إيمانها بصدق المسيح ـ حسب الصورة التي
يعتقدونها ـ وقد كان وجود هذه السلطة إذنًا بعقاب أصحاب الأديان والعقائد التي
اضطهدت المسيحيين الأوائل، فتتابع طرد اليهود من بيت المقدس.
كما زارت الإمبراطورة "هيلانة" والدة
قسطنطين، بيت المقدس، بعد ثلاثة وعشرين عامًا من إعلانه الديانة الجديدة لدولته،
وتفقدت المواضع التي شهدت دعوة المسيح ـ عليه السلام ـ وأقامت كنيسة القيامة
الشهيرة في الموضع الذي يعتقدون أن المسيح دُفن فيه.
البناء الروماني لبيت
المقدس:
"إيليوس أدريانوس" أو "هادريانوس".. هذا هو
الإمبراطور الروماني الكبير ـ ويُوصف بأنه "كان من أقدر الرجال الذين شغلوا منصب
الإمبراطور على مر التاريخ" ـ الذي ارتبط اسمه ببناء مدينة بيت المقدس، وتشييدها
على الطراز الروماني، ففي عام اثنين وثلاثين ومائة للميلاد ضيق الإمبراطور على
اليهود، ومنعهم من تأدية بعض طقوسهم العبادية في بيت المقدس، فثاروا ضده، ونجحوا في
السيطرة على المدينة المقدسة ثلاث سنوات، إلا أن الإمبراطور جرد حملة قوية لإخضاع
المدينة، فاستولى الرومان على خمسين قلعة، ودمروا قرابة ألف قرية، وقتلوا عددًا
كبيرًا من اليهود، "أما مَنْ لاقَوْا حَتْفَهُمْ جوعًا، أو بالطاعون، أو في
الحدائق، فلا يستطيع أحد أن يُحْصِيَهُمْ ـ كما يقول بعض المؤرخين ـ وهكذا خُرِّبت
يهوذا تقريبًا"، وصارت قرية مدمرة.
وأصبحت القدس محظورة "الدخول على مَنْ بقي من
اليهود بعد الحرب، وشتت الرومان من بقي منهم فوق جبل صهيون، ولم تعد هناك جماعات
يهودية في ضواحي المدينة".
لقد كان اعتزام أدريانوس عام مائة وثلاثين
إنشاء مدينة جديدة فوق أطلال القدس، هو السبب الرئيسي الذي دعا اليهود إلى الثورة
عليه، إذ كان إنشاء هذه المدينة يعني إنشاء معابد وثنية، وتمجيد معتقدات الإمبراطور
في المدينة المقدسة.
وبعد أن تخلص أدريانوس من المعارضة اليهودية
لمشروع مدينته، عهد إلى روفوس تيمايوس بإنشاء مدينته الجديدة، التي أسماها إيليا
كابيتولينا، لتحمل اسمه، وتكرم معبوداته الوثنية في الكابيتول في روما، اعتقادًا
منه أنهم سيَرْعَوْنَها له.
وعند التنفيذ قام العاملون بفلح أرض المدينة
وإعدادها للبناء، وأقيمت مدينة حديثة، فيها معابد ومسرح، وتجمعات سكنية، وبِركة
مياه، وسوقان.