صلاح الدين الأيوبي
والقدس:
لم يكن صلاح الدين يوسف بن أيوب قد ولد حين
وقعت المأساة، واحتل الصليبيون القدس، غير أنه فتح عينيه على الحياة سنة خمسمائة
واثنتين وثلاثين، وهناك صراعٌ مريرٌ يدور بين المسلمين والصليبيين، وحين بلغ
السابعة كان عماد الدين زنكي يدمر مملكة الرها، ويخرج الصليبيين منها، وحين بلغ
السابعة عشرة، كان نور الدين محمود يسعى حثيثًا إلى تحقيق الوحدة الإسلامية، ويضم
إليه دمشق، بعد أن خيب أمل الصليبيين في الاستيلاء عليها.
بدأ صلاح الدين يظهر على ساحة الحياة
الإسلامية شيئا فشيئا، في جو من التواجد الكثيف لأبيه أيوب وعمه أسد الدين شيركوه
بالقرب من عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود المجاهدَيْن
الكبيرين.
وفي حياة نور الدين وحكمه بدأ دور صلاح
الدين، حيث صحب جيش عمه أسد الدين شيركوه لضم مصر إلى دولة نور الدين، وهي المهمة
التي نجحت سنة خمسمائة وأربع وستين للهجرة، فأصبح للدولة الفتية جناحان من القوة:
مصر والشام، استطاعت فيما بعد أن تطوق بهما الوجود الصليبي في الشام، حتى تلاشى
تمامًا أيام المماليك.
وبوفاة نور الدين محمود سنة خمسمائة وتسع
وستين للهجرة، أصبح صلاح الدين الأيوبي الأمير الأقوى في الدولة، فأخذ يطبق
استراتيجيته لمواجهة الصليبيين، وعينُه على بيت المقدس، واصطدم بالصليبيين في معركة
كبرى في حطين سنة خمسمائة وثلاث وثمانين، فسهَّلت له بانتصارها الكبير الطريق إلى
بيت المقدس، وسار صلاح الدين بقواته إلى المدينة المباركة، وافتتحها في السابع
والعشرين من شهر رجب من نفس العام، بعد غربة دامت حوالي تسعين
عامًا.
إعداد صلاح الدين للمواجهة مع
الصليبيين:
كانت القدس عند صلاح الدين يوسف بن أيوب هي
قلب المعركة في الصراع مع الصليبيين، وكان لابد من الإعداد والاستعداد الطويل لها،
فالطريق إلى تحرير القدس ـ كما رآها ـ مملوءة بالصعوبات...
وإذا كان فتح القدس قد استغرق بضعة عشر
يومًا، فإن الإعداد له استغرق حياة جيلين، منذ قام عماد الدين زنكي يقاتل الصليبيين
وعينه على المدينة المقدسة.
وقد كان لازمًا لصلاح الدين، وهو يُعِدُّ
أمته للمواجهة الشرسة مع الصليبية، أن يهتم بإصلاح جبهته الداخلية، لأن العدو إذا
خرج من الداخل كان أشد خطورة، كما أن الجبهة المهلهلة المتفرقة لا تصبر في وجه عدو،
فاتخذ ثلاثة إجراءات كبيرة هي:
ـ الإصلاح العقائدي بإلغاء الدولة الفاطمية
ودعوتها.
ـ ثم مقاومة الفتن الداخلية.
ـ ثم توحيد ما استطاع توحيده من البلاد
الإسلامية.
كما اتبع صلاح الدين سياسة عمرانية واقتصادية
واجتماعية تهدف إلى خدمة سعيه نحو تحرير العالم الإسلامي، وإخراجه من ورطته
الحضارية، التي كانت الهزيمة والتراجع أمام الصليبيين نتيجة من
نتائجها.
واحتاج تنفيذ هذا كله من صلاح الدين أن يخوض
معارك شديدة الخطورة، فلقي مقاومات عنيفة، لكنها فشلت في أن تحول دون التغييرات
التي سعى إليها.
الإصلاح العقائدي:
لكي يؤتي الإصلاح نتيجته المنتظرة منه، كان
لابد أن يمس النفس من الداخل، وأن يُصْلِح العِوَج الذي أصابها، فالدولة الفاطمية
الإسماعيلية التي مكثت تحكم من القاهرة جزءًا كبيرًا من العالم الإسلامي لأكثر من
قرنين، رسَّخت بعض المبادئ التي لا تتفق ونقاءَ العقيدة الإسلامية، كالعصمة
الممنوحة للخليفة ـ والتي تجعل قراراته بعيدة عن المناقشة أو المخالفة، مهما بدت
منافيةً لنصوص الدين وروحه ـ والتأويلِ الباطني للقرآن.
وقد اهتم الفاطميون اهتمامًا بالغًا بتوصيل
مبادئهم وأفكارهم وترسيخها في البيئة الإسلامية، فبثوا الدعاة، وبنوا المساجد،
وأقاموا دور العلم ـ مثل دار الحكمة ـ من أجل تحقيق هذا الهدف.
وقد كان ترسيخ أفكارهم ونشرها في العالم
الإسلامي يضمن لدولتهم البقاء الأطول، لذلك أشرف عليها الخليفة مباشرة. وبالرغم من
ذلك لاقوا مقاومة كبيرة، ولم يجدوا عند الناس القبول التام لأفكارهم، وإن كان الأثر
الشعبي للفاطميين ما زال موجودًا إلى الآن في العديد من البيئات الإسلامية، على
هيئة احتفالات بالموالد وما شابهها.
كانت هناك خطوة مهمة أمام صلاح الدين وهو في
القاهرة لابد أن يتخذها في سبيل الإصلاح العقائدي، وهو إلغاء الخلافة الفاطمية
وجميع تقاليدها وأعمال دعاتها، وكانت مهمةً صعبة تحتاج إلى تمهل لامتصاص رد الفعل
إذا كان أكثر غضبًا، فهناك مجموعة كبيرة من الأعيان يَهُمُّها أن يستمر المذهب
الفاطمي والدولة الفاطمية، وكان الخليفة العباسي المستنجد بالله والأمير نور الدين
محمود يحثّان صلاح الدين على إلغاء الفاطمية وإبطال الخطبة لها.
واستجمع صلاح الدين همته، وعزم على الأمر،
فعزل "قضاة مصر الشيعة، وقطع أرزاقهم، وشرد الدعاة (الإسماعيلية)، وألغي مجالس
دعوتهم، وأزال أصول المذهب الشيعي، مثل الأذان بحي على خير العمل بدلا من الأذان
بحي على الفلاح.. بل حذف من النقش الديني على العملة المتداولة بين الناس صفة
العقيدة الشيعية: عليٌّ ولي الله"، وأسقط الدعوة للخليفة الفاطمي العاضد، وجعل
مكانها الدعوة للخليفة العباسي المستضيء بأمر الله بن المستنجد، ولنور الدين بعده،
وأزال اسم العاضد من العملة، ووضع اسم المستضيء ونور الدين أيضا، ومنع صلاة الجمعة
في الجوامع الكبيرة التي كانت تبثّ الدعوة الفاطمية فى نشاط منذ زمن، كالجامع
الأزهر وجامع الحاكم. وبذلك أصبحت الدولة الفاطمية في أول جمعة من سنة خمسمائة وسبع
وستين تاريخًا مضى.
ولم يكن كل هذا كافيًا في الإصلاح العقائدي
الذي سعى إليه صلاح الدين، إذ لابد من إعادة تسكين العقيدة الإسلامية الصحيحة في
نفوس الأمة التي تُعَدُّ للجهاد في سبيل الله، فأقام صلاح الدين مجموعة من المدارس
التي تعتني بنشر المذهب السني، كالمدرسة المنشأة بالقرب من قبر الإمام الشافعي
بالقاهرة.
القضاء على الفتن
الداخلية:
حين تقلد صلاح الدين منصب الوزارة في مصر كان
في ريعان الشباب، لذا كان موضع حسد كثير من رجال الدولة الذين عملوا في ظل
الفاطميين، فاعتبروه دخيلا عليهم، ومغتصبا لحقوقهم، فضلا عن ذلك كانوا يعملون على
تثبيت حكم الفاطميين في مصر مهما كلفهم ذلك من ثمن... فلم يدَّخروا جهدا في تدبير
المؤامرات، وبث الدسائس عسى أن يتخلصوا من الوزير الشاب الطموح صلاح الدين، ومن
أبرز هذه المؤامرات: مؤامرة مؤتمن الخلافة، ومؤامرة عُمارة اليمني، ومؤامرة كنز
الدولة.
أما مؤتمن الخلافة جوهر فقد كان له الحل
والعقد في قصر "العاضد" آخر الخلفاء الفاطميين في مصر، فاتفق هو وجماعة من المصريين
على مكاتبة الفِرِنْج، واستدعائهم إلى البلاد، ليَقْوَوا بهم على صلاح الدين ومن
معه، فكتب إلى الإفرنج كتابا يحضهم فيه على الزحف على مصر، حتى إذا وصلوا وخرج
إليهم صلاح الدين، وزحف مؤتمن الخلافة بجموع، واقتفى أثره ـ وَقَعَ صلاح الدين بين
نارين، فلا يَبقى له ولا لمن معه باقيةٌ.
علم صلاح الدين بالحقيقة، لكنه لم يظهر ذلك،
ولم يعاقب مؤتمن الخلافة فورًا حتى لا تثور ثائرة أتباعه ومؤيديه، فما زال صلاح
الدين يمهله ويطاوله حتى أتيحت له الفرصة فتمكن منه ومن أتباعه فقضى
عليهم.
وأما عمارة اليمني فقد اعتبر الأيوبيين
مغتصبين للعرش الفاطمي، وطالما مدح الفاطميين وأيامَهم في شعره، وعمل على إعادة
الحكم الفاطمي، ودعا عددا كبيرًا من الجند، وانضم إليه المناصرون، وبقايا الفاطميين
وأصبحت حركته خطرا يهدد دولة الأيوبيين الوليدة، ليس هذا فحسب بل كاتب الإفرنج في
ذلك ليستعين بهم على تقويض حكم صلاح الدين، والقضاء عليه نهائيا.
لكن أحد مؤيديه، وهو زين الدين بن نجا، وَشَى
بخبرهم إلى صلاح الدين ابتغاء المكافأة، فقبض صلاح الدين عليهم وقتلهم سنة خمسمائة
وتسع وستين.
وأما كنز الدولة والي أسوان وقوص فقد سعى سنة
خمسمائة وسبعين إلى إعادة البيت الفاطمي إلى السلطة، وأنفق في أتباعه أموالاً
جزيلة، وانضم إليه جماعة ممن يميلون إلى الفاطمية، فقتل عشرة من أمراء صلاح الدين،
فجهز صلاح الدين أخاه "العادل" في جيش كثيف، ثم سار "العادل"، فلقي " كنز الدولة"،
وكانت بينهما حروب فرّ فيها كنز الدولة، بعدما قتل أكثر عسكره، ثم قتل كنز الدولة
في سابع صفر، وقدم الملك العادل منتصرًا إلى القاهرة في الثامن عشر من
صفر.
وهكذا استطاع صلاح الدين أن يقطع دابر الفتن،
وأن يقضي على القلاقل والمؤامرات، لينطلق بعد ذلك نحو أفق أوسع في مواجهة
الصليبيين.
جهود صلاح الدين
العمرانية:
يمثل العمران الداخلي للوطن الوجهَ المكمِّل
للعمران الداخلي للإنسان، وإذا كان صلاح الدين قد سعى نحو إرجاع العافية إلى الجسد
الإسلامي بإصلاح العقيدة لدى المسلمين، فقد حرص بالمثل على إعمار الأرض بالبنايات
المدنية التي تيسّر للخلق أمر معايشهم، والمنشآتِ العسكرية التي تدفع عن الوطن جيوش
الأعداء.
ومن هذه البنايات المهمة: سور القاهرة
وقلعتها العتيقة (قلعة الجبل)، وقلعة سيناء، وعمَر جزيرة الروضة في النيل، وقوّى
أسطول مصر، وجعل له ديوانا مخصوصا أشرف عليه أخوه العادل ، ليكون الأسطول ـ مع جيشه
البري ـ ذراعا قوية للمسلمين في وجه الصليبية وحملاتها الشرسة وقواعدها
الحصينة.
وعمر السلطان أسوار الإسكندرية وأبراجها،
وشيد دورا لعلاج المرضي في عدة مواضع من مملكته، وأقام جنوب قلعة سيناء مسجدين
متجاورين، وصهريجا لسقاية الناس.
وامتدت أعمال الإعمار بصلاح الدين بعد تحرير
بيت المقدس، فحرص على تحصينها، وبنى بها عدة مدارس، أهمها المدرسة الصلاحية
بالقدس.
جهود صلاح الدين
الاقتصادية:
تحتاج الحرب إلى استقرار اقتصادي تستطيع
الأمة معه أن تمول جهودها القتالية، وتأمن معها من الهِزات والأزمات الداخلية في
مثل هذه الأوقات الحرجة.. وقد حرص صلاح الدين على دعم الحركة الاقتصادية في الأجزاء
التي سيطر عليها من العالم الإسلامي، فاهتم بالتبادل التجاري الداخلي والخارجي، حتى
نشطت التجارة مع بعض المواني الأوروبية، مثل مدن إيطاليا الجنوبية، وأسس تجار
البندقية الإيطاليون سوقا لهم في الإسكندرية، واعتنى السلطان بأسواق دولته، وتجلى
ذلك في عيون الرحالة في حلب وطرابلس وغيرهما.
واعتنى السلطان الكبير بالري والزراعة، وآخى
بين الإقليمين الخصيبين مصر والشام؛ لتأمين حاجة الجيش والأمة من
الغذاء.
كما رعى السلطان صلاح الدين الصناعات المهمة
في عصره، كالسلاح والسفن والمنسوجات والأقمشة والخزف..
وأكثر من ذلك كانت الحرب نفسها توفر للدولة
دخلا كبيرا عقب اللطمات التي يعطيها المسلمون للجيوش الصليبية، فهناك: غنائم الحرب،
وفدية الأسرى، وخراج الأرض التي تُفتَح صلحا. كما ضم صلاح الدين كنوز الفاطميين
الضخمة إلى أموال الدولة عقب إلغاء خلافتهم.
جهود صلاح الدين
الاجتماعية:
تميزت شخصية صلاح الدين بالجد، إدراكًا منه
لحساسية المرحلة التي يحياها، وأن الهزل ليس من طبيعة الأمة
المجاهدة.
وكان المسلمون في حاجة إلى مثل هذه الروح؛
لحماية هويتهم وذواتهم من المحو والمحق، ووجدوا قدوتهم في قائدهم الذي يشاركهم
الحرب والقتال بنفسه، ويسبقُ الناسَ إليها وفيهم أبناؤه وإخوته، ويتعرض لما يتعرض
له المسلمون من الأخطار والأهوال ـ والقدوة هي الركن الركين في الإصلاح
الاجتماعي.
وألغى السلطان التجمعات والأعياد التي يُزاول
فيها الفسق والفجور، مثل عيد النيروز، والمبتدعات التي يُساء فيها إلى الدين، كيوم
عاشوراء الذي يحتفل فيه الشيعة بذكرى استشهاد الحسين ـ رضي الله
عنه.
كذلك ألغى صلاح الدين الضرائب الجائرة التي
كانت مفروضة على رقاب العباد، مثل الضريبة التي كان يفرضها أمير مكة على
الحجيج..
تحقيق الوحدة الإسلامية:
وصف ابن الأثير حال المسلمين عندما بدأهم
الغزو الصليبيُّ، فقال: "اتفق لهم اشتغال عساكر المسلمين وملوكهم بقتال بعضهم بعضا،
وتفرقت حينئذ بالمسلمين الآراء، واختلفت الأهواء، وتمزقت الأحوال".
فهكذا بدت الصورة في العالم الإسلامي حين حل
الصليبيون على المنطقة ضيوفًا ثقلاء وغير مرغوب فيهم، وبسبب هذه الفُرْقة والتنازع
بين المسلمين تمكنت الصليبية الغربية من ترسيخ أقدامها، وأصبحت لها ممالك ورعية
تابعة في أربع إمارات كبيرة، هي: الرها وأنطاكية وطرابلس والقدس.
وحين هبَّ المسلمون في وجه الزحف الصليبي،
الذي كان يسعى إلى قضم المزيد من الأرض الإسلامية، أيقن قادة المسلمين أنه لا نجاح
لجهودهم في وقف المد الصليبي والقضاء عليه إلا بتقوية الجبهة الداخلية وتحقيق
الوحدة الإسلامية.
وقد تعلم القائد الكبير صلاح الدين هذا الدرس
ممن سبقوه على طريق الجهاد، خاصة عماد الدين زنكي ونور الدين محمود، فحرص كلَّ
الحرص على تجميع شتات المسلمين، وإبعاد السلاطين الضعفاء عن مواقعهم؛ لأنهم يمثلون
نقطة ضعف قاتلة في الجسد الإسلامي الذي يواجه خطر المحو.
ألغى صلاح الدين الخلافة الفاطمية سنة
خمسمائة وسبع وستين، فأصبحت القوة الإسلامية تحت قيادة نور الدين كبيرة، بانضمام
مصر تمامًا إلى ممتلكاته في الشام وشمال العراق، لكن نور الدين مات بعد ذلك بعامين،
ولم تتح له الفرصة للزحف على بيت المقدس لتحريره، بل كادت هذه الفرصة تضيع من الأمة
كلها، حين ترك نور الدين للولاية بعده طفلاً في الحادية عشرة من عمره، فتنازع
الأمراء من أتباع نور الدين وأقاربه على السلطة، وحل الجد والنشاط في الصليبيين
فأخذوا يهاجمون دمشق.
زحف صلاح الدين إلى دمشق ـ بطلب من أهلها ـ
وضمها إليه بلا قتال في ربيع الآخر من سنة خمسمائة وسبعين فبدأت العداوات تتكاثر من
حوله، وراحت الحراب توجه إليه من كل ناحية، من الصليبيين ومن الأمراء المتنازعين
على وراثة تركة نور الدين، حتى استنجد بعض الأمراء بالصليبيين الذين هاجموا جيشه من
إمارة طرابلس الصليبية.
ودخل صلاح الدين في حروب حول الجزيرة وحلب،
وهو يحسب حساب خطواته، وعينه على الصليبيين القريبين منه، حتى خضعت له كل ممتلكات
نور الدين في الشام والجزيرة العربية واليمن والجزيرة بشمال العراق، وطوق الصليبيين
من كل جهات البر، وقال القائد المنتصر صلاح الدين يوسف بن أيوب: "أمور الحرب لا
تحتمل في التدبير إلا الوحدة"!!
حطين تفتح الطريق إلى
القدس:
غربيَّ طبرية، وعلى الطريق المؤدية إلى القدس
جنوبًا، وسط منطقة خضراء فيها زروع وبحيرة وماء كثير، تقع حطين، ويشرف عليها تل
مرتفع..
كانت فلسطين في القرن السادس الهجري مملوءة
بالصليبيين الذين أشعل صلاح الدين الأرض من تحتهم نارًا منذ وفاة نور الدين، فكان
يفاجئهم بالحرب في مواقع كثيرة، ويختطف منهم الحصون والمدن، ويَهزمهم ويُهزم منهم،
حتى جاء موعد حطين في سنة خمسمائة وثلاث وثمانين، حيث خرج صلاح الدين من دمشق في
شهر المحرم، وتوجه إلى بصرى، وانتظر عودة الحجاج من الحجاز ليؤمنهم من غدر أمير
الكرك الذي قتل رَكْبًا للحجيج قبل ذلك، وتعرض بالإهانة لنبي الإسلام ـ صلى الله
عليه وسلم ـ فأقسم صلاح الدين على الانتقام منه بنفسه.
فلما عبر الحجيج سالمين، سار السلطان الناصر
صلاح الدين بجنوده نحو الكَرَكِ، فنزلها "وقطع ما حولها من الأشجار، ورعى الزرع،
وأكلوا الثمار".. وأقبلت القوات إلى صلاح الدين من مصر وشتى أنحاء
مملكته.
وبلغت تحركات صلاح الدين مسامع الصليبيين،
فأخذوا يجمعون جحافلهم، ويُجَيِّشون جيوشَهم، وفيهم ملوكهم الكبار، وخرجوا إلى صلاح
الدين وقواته، وأقبل السلطان الناصر زاحفًا، "ففتح طبرية، وتقوّى بما فيها من
الأطعمة والأمتعة وغير ذلك"، ومنع الماء عن الصليبيين حتى كاد العطشُ يهلكُهم،
وتقدم المسلمون حتى نزلوا حطين.
وفي يوم حار من أيام شهر يوليو، في الرابع
والعشرين من ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، كانت حلوق الصليبيين يوم
المعركة ملتهبة من العطش، وهم يحملون شعارهم المقدس، صليبًا من الخشب، وقد زينوه
بالذهب والجوهر الكثير، وأسموه صليب الصلبوت؛ لاعتقادهم أن المسيح صُلب
عليه..
وأخذوا يزحفون جهة صلاح الدين الذي انسحب من
أمامهم ليستدرجهم إلى موضع أفضل للقتال بالنسبة لجيشه، وسيطر المسلمون على المياه
ومصادرها، وأعطوا ظهورهم للأردنّ، واستقبلوا العدو في جمعه الكبير، خمسين
ألفًا..
في هذه اللحظة انطلق الفرسان من الجانبين في
قتال مرير، وارتفعت صيحات المسلمين بالتكبير، وقاتل الناصر صلاح الدين بنفسه، وطاف
بين جنوده يحرضهم على القتال، وأمر بإشعال الأرض بالنفط من تحت أقدام عدوّه حين رأى
العُشب الجاف يكسوها، فاجتمع على الصليبيين "حَرُّ الشمس وحر العطش وحر النار وحر
السلاح وحر رشق النبال"، وحمل القائدُ المسلم وجنودُه حملة صادقة كان فيها الحسم،
حيث وقعت في الصليبيين مقتلة عظيمة، وراحوا يستسلمون للمسلمين جماعاتٍ، فكان الرجل
الواحد من المسلمين يأسر بالعشرات من الصليبيين، يقيّدهم بالحبال، حتى استسلم ملوك
الصليبيين، ووقع أكثرُهم في الأسر.
وواصل السلطان الناصر سيره، حتى استولى على
قلعة طبريّة الحصينة، وافتتح عكا صلحًا، "ثم سار منها إلى صيدا وبيروت وتلك النواحي
من السواحل يأخذها بَلدًا بلدًا، لخلوّها من المقاتِلَةِ والملوك، ثم رجع سائرًا
نحو غزة وعسقلان ونابلس وبيسان وأرض الغور، فملك ذلك كله.. وكان جملة ما افتتحه
السلطان في هذه المدة القريبة خمسين بلدًا كبارًا..".
لقد فتحت كل هذه الفتوح الطريق إلى بيت
المقدس، وأصبح الهدف المركزي من شن الحرب ضد الصليبية قريب التحقق، وراح الشاعر
العماد الأصفهاني يقول لصلاح الدين وجيوش المسلمين:
غَزَوْا عُقْر دار المشركين
بـ"غزة"
جِهَارًا، وطرف الشرك خزيان
مُطْرِقُ
وهيَّجْـتَ للبيـت المقـدَّس
لوعـة
يطول بها منه إليك التشوُّقُ
هـو البيـت إن تفتحْـه، والله
فاعل،
فمـا بعـده بـاب مـن الشـام
مغلَــق!
صلاح الدين يحرر القدس:
كانت أنشودةً رائعة للنصر، تلك التي غنّاها
صلاح الدين في حطين، حيث التقط بعدها المدن والقلاع من يد الصليبيين واحدة بعد
الأخرى. وكان المسلمون بعدها يترقبون بشوق عارم أن يعلن السلطان التوجه إلى بيت
المقدس، فلما أعلن ذلك طارت بهم أرواح الشوق، فقصده المتطوعون من العلماء والصالحين
من أنحاء العالم الإسلامي، وأتاه أخوه الملك العادل من مصر في قواته، فاجتمع لدى
صلاح الدين جيش كبير، سار به من عسقلان إلى القدس.
وقف الجيش المسلم أمام المدينة المُطلة على
الدنيا من فوق مرتفعاتها في كبرياء وشموخ، بعد أن وجه صلاح الدين أسطوله البحري في
مصر إلى الشواطئ قُبالة القدس، ليمنع وصول أي مساعدة إلى الصليبيين.
وأنزل صلاح الدين أخاه العادل في جيشه جنوب
سور المدينة ليشغل العدو بهذه الناحية، ويشتت قواتهم حول الأسوار المنيعة، ونزل
السلطانُ نفسُه في الناحية الغربية من القدس، وبقي في موضعه هذا خمسة أيام يحاول
اقتحام المدينة، والعدو يزيد هذه الناحية تحصينًا، حتى أيقن صلاح الدين أن
الصليبيين قد ركزوا أكثر اهتمامهم وقواتهم وعتادهم في السور الغربي للمدينة، فتحول
فجأة إلى السور من جهته الشمالية، ووقع القتال ساخنًا، حتى استشهد بعض أمراء
المسلمين، فازدادت النفوس حماسة وإصرارًا على القتال، وأبصر المسلمون الصلبان فوق
قبة الصخرة وفوق الأسوار، فازدادوا حماسة لإبطال هذا كله، وتساقطت الأحجار من
المجانيق على السور كالمطر الغزير، وتحت وابل هذه الأحجار نقب المسلمون السور من
زاويته الشرقية الشمالية، حتى انهدم البرج القائم هناك، وانفتح الطريق أمام
المسلمين لاقتحام المدينة.
كان أمام المسلمين أن يُعْمِلوا في أعدائهم
قتلاً وذبحًا، ويملأوا شوارع المدينة المباركة من دماء القتلى، لكن صلاح الدين
قَبِل أن يصالح الصليبيين، وتسلم منهم القدس المباركة في السابع والعشرين من شهر
رجب، أي ما يوافق ليلة الإسراء والمعراج من سنة خمسمائة وثلاث
وثمانين.
ومسح القائد المنتصر عن المدينة دموعها،
وعالج آلامها، وردَّها إلى سالف عهدها مدينةً إسلامية يُرفع فيها الأذان، وتقام
الجُمُعَات.
صلاح الدين يتسلَّم القدس:
لم تكن مشاهد المأساة الرهيبة التي ارتكبها
الصليبيون في القدس يوم استولوا عليها تفارق خيال صلاح الدين، الذي لم يشاهدها
بعينيه، إذ لم يكن قد وُلد حين وقعت، غير أن مشاعر هذا الجيل كله قد تأثرت بهذه
المأساة الكبيرة.
وحين استطاع صلاح الدين بقواته فتح طريق في
سور القدس، أراد أن يقتحمها على أهلها، وصورة المأساة الأولى ماثلة أمام عينيه؛
دماء قَلَبَتْ لون الأرض حُمْرةً قانية، تميل إلى السواد في بعض المواضع، وأشلاء
بشر مقطعةٌ لا يَدْري أيٌّ منها مَن صاحبُه، وملابس الصليبيين وأجسادهم ملطخة بدماء
الضحايا، كأنهم ذئاب فرغت لتوها من فرائسها!
لكن الصليبيين راحوا يلتمسون عند السلطان
الناصر الصلح، وهو يحاصرهم، فقال لهم في غيظ شديد: "لا أفتحها إلا عنوة (أي بالقوة)
كما افتتحتموها أنتم عنوة، ولا أترك بها أحدًا من النصارى إلا قتلته كما قتلتم أنتم
من كان بها من المسلمين" !!
إلا أنهم عادوا يترققون إلى السلطان، ويذلون
بين يديه، وخلطوا بذلك التهديد بقتل خمسة آلاف أسير من المسلمين في أيديهم، وبتخريب
البيوت، وإتلاف كل ما يمكن الانتفاع به، وهدم قبة الصخرة، ثم الاستماتة في القتال
حتى يُفنوا من يقدرون عليه من المسلمين قبل أن يموتوا هم، فرضي السلطان بالصلح ـ
بعد استشارة أمرائه ـ صونًا لدماء المسلمين، وحفظًا للمدينة المقدسة من
الدمار.
واشترط صلاح الدين على المحتلين أن يغادروا
القدس تمامًا في خلال أربعين يومًا، ولا يصطحبوا معهم خيلاً ولا سلاحًا، ويدفع
الرجل عن نفسه عشرة دنانير، والمرأة خمسة، والصغير يُدفع عنه ديناران، ومن عجز عن
ذلك صار رقيقًا في يد المسلمين، ومع ذلك تسامح صلاح الدين والمسلمون مع الكثيرين
ممن عجزوا عن دفع هذه الدنانير، وتركوهم يغادرون القدس، وتركوا البطريرك يخرج
بنفائس الكنائس وكنوزها، وأعاد صلاح الدين زوجات الأمراء والكبراء من الصليبيين إلى
أزواجهن، معهن كل ما يملكن من جوارٍ وخدم ومال.
وراح الصليبيون يجمعون متاعهم وهم في ذهول
عما يجري حولهم، لا يصدقون أنهم يتركون القدس، ولا يصدقون أن المسلمين يتعاملون
معهم بهذا الرفق، وهذا الصون للعهد، وراحوا يتسللون من المدينة المقدسة في ذل، فذهب
أكثرهم إلى صور التابعة لهم، وبيتوا في أنفسهم مواصلة الصراع الشرس مع المسلمين حول
القدس.
وصلى المسلمون وقائدُهم أول جمعة في القدس ـ
منذ الاحتلال الصليبي ـ بعد الفتح بسبعة أيام.
صلاح الدين يمسح عن القدس
دموعها:
في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب سنة
خمسمائة وثلاث وثمانين، قبل وقت الصلاة بقليل، وفي صورة مهيبة دخل صلاح الدين بيت
المقدس، وحوله قُرابة عشرة آلاف عمامة من العلماء والزهاد، كانت دموع الفرح
والإحساس بالنعمة تملأ عيون الناس، فالمدينة المباركة قد عادت بعد غربةٍ أكثرَ من
تسعين عامًا إلى الحضن الإسلامي الدافئ، وراحت العيون تصافح شوارع القدس وأحياءَها
ومساجدها التي طالتها يد التشويه، وصلى المسلمون الجمعة ظهرًا، إذْ لم يتسع الوقت
لهم لأداء صلاة الجمعة يوم الفتح المسمَّى بالفتح الأكبر، كما سُمِّى فتح مكة
بالفتح الأعظم.
وبعد أن جلس صلاح الدين يتلقى التهنئة على
الفتح، وأنشأ الشعراء قصائدهم السعيدة تسجل الحادث العظيم، وأرسل صلاح الدين إلى
جميع بلاد الإسلام بالفتح العظيم ـ بعدها بدأ صلاح الدين والمسلمون يمسحون عن وجه
القدس الدموع، فأزالوا كل التشويهات والتعديات التي قام بها الصليبيون، فأعيدت
المساجد كما كانت، ورفعت عنها الصلبان، "وغسلت الصخرة بالماء الطاهر، وأعيد غسلها
بماء الورد والمسك الفاخر، وأبرزت للناظرين، وقد كانت مستورة مخبوءة عن الزائرين"،
وكان غسل الصخرة على يد صلاح الدين نفسه، حيث قام يغسلها وهو يبكي، ودارت في ذهنه
هنا صورة أمير المؤمنين عمر وهو ينظِّف الصخرة بنفسه بثوبه، ويحمل التراب وهو أمير
المؤمنين وحاكم الدنيا!!
وهُدمت البِنايات الإضافية التي زادها
الصليبيون في المسجد الأقصى، والتي كانت نزلا لصفوة جنودهم، ووضعت في المسجد
المبارك القناديل، وفُرش بالبُسُطِ، وحمل منبر نور الدين محمود الرائع ووضع في
المسجد الأقصى، شاهدًا لهذا البطل الذي عمل الكثير من أجل القدس، ورحل قبل أن يتحقق
أمله في دخولها والصلاة في مسجدها.
ورتب الناصرُ صلاحُ الدينِ يوسفُ بنُ أيوبَ
إمامًا لمسجد قبة الصخرة، وإمامًا للمسجد الأقصى، وبنى المدرسة الصلاحية للشافعية،
وشيد للصوفية رِباطًا.
وأراد صلاح الدين أن ينتصر للمساجد، فيهدم
كنيسة القيامة، فقال له المسلمون: "قد فتح هذا البلدَ قبلك أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب، وترك هذه الكنيسة بأيديهم، ولك في ذلك أسوة"، فتركها قائمة، ولم يترك فيها
من النصارى سوى أربعة يخدمونها.
ورتب القائد سكان المدينة من جديد، بحثا عن
الأمن والأمان للمدينة ومن يقيم فيها.
أول جمعة في القدس بعد
الفتح:
(فقُطِعَ دابرُ القوم الذين ظلموا والحمدُ
لله رب العالمين) .. الحمد لله معزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الشرك بقهره، ومصرف
الأمور بأمره، ومُزِيد النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذي قدر الأيام
دُوَلاً بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاض على العباد من طلّه وهطله، الذي
أظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يُمانع، والظاهر على خليقته فلا
ينازع، الآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع، أحمده على إظفاره
وإظهاره وإعزازه لأوليائه، ونصره أنصاره، ومطهر بيت المقدس من أجناس الشرك وأوضاره
حمد من استشعر الحمد باطن سره، وظاهر إجهاره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، شهادة من طهر
بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله رافع الشكر، وداحض
الشرك، ورافض الإفك، الذي أُسري به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى، وعُرِج
به منه إلى السموات العلى، إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، ما زاغ البصر وما
طغى، صلى الله عليه وسلم وعلى خليفته الصديق، السابق إلى الإيمان، وعلى أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين
عثمان بن عفان، ذي النورين، جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل
الشرك، ومكسر الأصنام، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان".
هكذا ارتفع صوت خطيب الجمعة من فوق منبر
المسجد الأقصى، في أول جمعة يقيمها المسلمون في المسجد المبارك منذ إحدى وتسعين سنة
كاملة، كانت نفس القاضي محيي الدين بن الزكي مملوءة بالفرحة والسعادة، وهو يلقي هذه
الكلمات من فوق المنبر المبارك، ويتبعها بذكر فضائل بيت المقدس، وما ورد من الترغيب
في زيارته وشد الرحال إليه.
هنا راح المسجد يتباهى بالموحدين الذين تتردد
في جنبات المسجد ألفاظ عبادتهم لله الواحد، وكبر الراكع والساجد، والقائم والقاعد،
وامتلأ الجامع المبارك بجموع المسلمين، وسالت الدموع، ورقت القلوب، في مشهد من
مشاهد التاريخ الكبرى.
سكان القدس بعد التحرير:
تدبَّر صلاح الدين شئون المدينة قبل مغادرتها
في الخامس والعشرين من شعبان، وأعاد إليها صفتها العربية الإسلامية، فأمر بتسليم
بيوت من قُتلوا أو أخرجوا لورثتهم، وقوّاهم بإقطاع بعض أحياء المدينة لقبائل عربية،
فأنزل بني حارث قرب القلعة، وبني مرة في سوق الفخر (عرفت بخان الزيت فيما بعد)،
وبني سعد في الحي الذي عرف فيما بعد بالسعدية، وبني زيد بقرب باب
الساهرة.
وأنشأ صلاح الدين في المدينة عددًا من
المعاهد لخدمة سكانها، منها رِباط للصوفية ومستشفى (بيمارستان) للمرضى، كما أنشأ
أيضًا المدرسة التي عرفت باسمه فيما بعد، وفوض إدارتها إلى القاضي بهاء الدين بن
شداد، والغالب أنها خلفت (دار العلم) الفاطمية التي أنشئت مكانها كنيسة القديسة حنة
(أم مريم العذراء) أيام الاحتلال الصليبي.
وأوقف صلاح الدين على هذه المعاهد وغيرها
الأوقافَ لضمان نفقة إدارتها، ثم أمر بتعمير سور المدينة، وحفر الخندق حوله، وأقام
مقبرة للمجاهدين بقرب باب الساهرة، بالإضافة إلى مقبرة كان الصليبيون قد دنسوها،
ومقبرة باب الرحمة خارج سور الحرم الشريف من الشرق.
وفكَّ صلاحُ الدين أسْرَ آلافٍ من المسلمين،
كانوا قد وقعوا في يد الصليبيين في المعارك الكثيرة التي دارت بينهم وبين المسلمين،
وشمَّ هؤلاء الأسرى رائحة الحرية في جو من السعادة الغامرة بالفتح، وأحسن القائد
إليهم، ومنحهم المال، وكساهم، ورجع كل منهم إلى أهله ووطنه ومسكنه.
ولم يرحل نصارى الشرق من سكان القدس مع
الصليبيين، بل طلبوا من صلاح الدين أن يبقيهم ففعل، على الرغم من أن بعضًا منهم
شايع الفرنجة وساعدهم، ولما رحل بطرِيقُ اللاتين مع الفرنج الذين رحلوا، خلا
الميدان لإعادة تأسيس البطريركية الأرثوذكسية التي ألغاها الصليبيون، وقد تمَّ ذلك
برضا صلاح الدين ومساعدته.
ليس هذا فحسب بل إنه لم يحرم هؤلاء النصارى
من زيارة الأماكن المقدسة لهم في أمان تام وحرية كاملة، حتى إنه قد خصص حراسة
للحجاج المسيحيين الذين اتجهوا إلى زيارة كنيسة القيامة.
أما عن اليهود الذين لم يُبق الصليبيون منهم
حيا في المدينة، فقد سمح صلاح الدين لبعضهم أن يقيم في المدينة، وفتح جميع مملكته
للمضطهدين منهم، فجاءوا إليه يطلبون الأمن ويلاقون العدل.
الصراع مع الصليبيين حول
القدس:
ملأت الكآبة والحزن كل أنحاء أوروبا، وثار
الغضب في قلوبهم حين خرجت القدس من أيدي ملوكهم في الشرق، وفتحها المسلمون تحت
رايات الجهاد وقيادة صلاح الدين يوسف بن أيوب.. حتى قيل إن البابا أوربان الثالث
مات حزنًا من أثر هذا الفتح الكبير.
وخرج بطريرك القدس منها، بعد أن أمَّنه صلاح
الدين، وتركه يخرج بكنوز الكنائس ونفائسها ـ خرج البطريرك إلى أوروبا، يطوف
ببلدانها، وبيده صورة مرسومة صوّروا فيها المسيح يضربه رجل مسلم، ليؤجج نيران الحقد
والكراهية للمسلمين، وليشعل الحرب الصليبية ضد الإسلام من جديد.
أنصتت أوروبا إلى الصوت المُنْكَرِ القادم من
الشرق، وعملت الدعاية أثرها القوى فيها، فقام البابا جريجوري الثامن يدعو إلى حرب
المسلمين، وخلَفه بعد هلاكه كليمنت الثالث، الذي نشر أساقفته في البلدان يحرِّضون
على تجديد الحرب ضد الإسلام والمسلمين، فخرجت الحملة الصليبية الثالثة بقوة هائلة،
يتقدمهم ملك ألمانيا فريدريك، وملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد، وفيليب أغسطس ملك
فرنسا، هذا غير الأساطيل التي ملأت البحر. إلا أن الملك الألماني وجيشه هلك أكثرهم
في طريق المجيء والعودة، ولم يقاتلوا المسلمين إلا قليلاً.
كانت القدس هي المقصد الأساسي من هذه الحملة،
فأرادوا اختراق البر الشامي عن طريق عكّا ومساعدة أهل ملتهم في الشام، فضربوا عليها
حصارًا شديدًا، وكانت هذه الحملة أشرس الحملات الصليبية وأقواها، إلا أن المسلمين
في عكا صبروا صبرًا عظيمًا، وقاتل صلاح الدين الفرنجةَ وحاول أن يشغلهم عن عكا، إلا
أنهم استولوا عليها في جُمادى الآخرة من سنة خمسمائة وسبعٍ وثمانين، بعد ملحمة من
المقاومة استمرت ثلاث سنوات.
هنا أصبحت القدس في خطر شديد، وعُرْضةً لسقوط
آخر في يد الصليبيين، ووقع قتال هائل في عدة مواقع بين المسلمين والصليبيين، مات
فيه آلاف وآلاف من الطرفين، حتى كتب ريتشارد إلى السلطان صلاح الدين: "إن الأمر قد
طال وهلك الفرنج والمسلمون، وإنما مقصودنا ثلاثة أشياء لا سواها، رد الصليب، وبلاد
الساحل، وبيت المقدس، لا نرجع عن هذه الثلاثة، ومنّا عين تطرف"! ولم يكن ريتشارد
يدري أن كل هذا الجهاد والصبر والاستشهاد من المسلمين إنما هو لحماية الدين
والديار، وعلى رأسها بيت المقدس، فرد عليه صلاح الدين ردًا عنيفًا، فاتجه الصليبيون
إلى بيت المقدس لانتزاعها، وتقدم الناصر صلاح الدين إلى المدينة المباركة
لحمايتها، وسكن في دار القساقس قريبًا من كنيسة القيامة في ذي القعدة من سنة
خمسمائة وسبع وثمانين، "وشرع في تحصين البلد وتعميق خنادقه، وعمل فيه بنفسه
وأولاده، وعمل فيه الأمراء والقضاة، والعلماء والصالحون" كما قسم العمل في السور
بينه وبين أولاده وأمرائه، وراح يحمل الأحجار بنفسه، وفعل أولاده وأمراؤه مثل ذلك،
وكذلك الفقهاء والقراء، واقتدى بهم الناس.
وتقدم ريتشارد ليضرب حصاره حول بيت المقدس،
واستعد المسلمون لحصار وقتال طويل، وقبل أن يصل الصليبيون إلى أسوار المدينة بقليل
دب الشقاق والخلاف بينهم، إذْ تأكد الجميع من طمع ريتشارد ومكرِه، وأنه يريد
الاستئثار بكل شيء لنفسه، فانسحب ملك فرنسا بقواته، ودارت بعض حلقات القتال بين
ريتشارد وقوات المسلمين، ثم بلغ ملكَ الإنجليز أن أخاه يريد انتزاع ملكه في بلاده،
فأسرع إلى عقد صلح مع المسلمين يحتفظ الصليبيون بموجبه بما في أيديهم، ويُمْنحون
الإشراف على كنيسة القيامة، وبذلك دخل المسلمون في مرحلة من الاستجمام بعد أن
أضناهم القتال.
الاستعداد لحصار طويل:
كانت الشدائد والأهوال التي لقيها صلاح الدين
ومن معه بعد تحرير القدس ـ أكبر بكثير مما عانوه قبل الفتح وعند دخولهم المدينة
المباركة، فقد حفز فتح المسلمين للقدس كل قوى أوروبا، فخرجوا في أعداد كبيرة،
واستعدادات حربية ضخمة، وقاد ملوكهم الكبار الجيوش بأنفسهم، بحثًا عن موضع لهم في
الأرض المباركة.
وقد عانى المسلمون الكثير وصبروا صبرًا
عظيمًا في حصار الصليبيين لعكا، لعلم صلاح الدين ومن معه أن سقوط عكا يفتح الطريق
أمام الصليبيين نحو القدس، لكن المدينة الساحلية سقطت في يد ريتشارد وجنوده في
جمادى الآخرة سنة خمسمائة وسبع وثمانين، وراح السلطان صلاح الدين والمسلمون يستعدون
بقوة لمواجهة حصار صليبي قاس للقدس.
لم يكن صلاح الدين يرى أن الاستعداد المادي
يكفي وحده لمواجهة العدو؛ لذا لم تتوقف جهوده عند حفر الخنادق حول القدس، وتقوية
سورها، وتعزيز نقاط الدفاع فيها، وردم العيون خارج السور لكي لا ينتفع بها العدو
القادم ـ وإنما تجاوزت جهود المجاهد الكبير ذلك إلى الجانب القلبيّ والنفسيّ، فقام
جنودُه ـ بإشارة من العماد الأصفهاني الكاتب ـ بالمبايعة على الموت عند صخرة
المعراج، كما كان الصحابة يفعلون، ووقف صلاح الدين في جنوده خطيبًا، يحملهم مسئولية
عظيمة، وهي حماية الأمة المسلمة كلها.
ووجد صلاح الدين إجابة حسنة من جماعة
المسلمين، ففرح لذلك، ووزع القوات بحيث يتبقى بعضها داخل المدينة يدافع عنها، ويبقى
البعض الآخر خارج القدس: يشغل الصليبيين، ويبقى لحماية باقي ديار الإسلام، وكان
اليوم جمعة، فلما حضر صلاح الدين للصلاة، "وأذن المؤذن للظهر ـ قام فصلى ركعتين بين
الأذانين، وسجد وابتهل إلى الله ـ تعالى ـ ابتهالاً عظيمًا، وتضرع إلى ربه وتمسكن،
وسأله فيما بينه وبينه كشف هذه الضائقة العظيمة".
وكان الله مع خَلْقِه وعبادِه، فكشَف الغُمة
بخلافٍ وقع في معسكر الصليبيين، الذين مالوا إلى طلب الصلح. ولم يمكث صلاح الدين في
القدس بعد ذلك إلا أياما قليلة.
آخر أيام صلاح الدين في
القدس:
وجْهُ صلاح الدين تعرفه القدس جيدًا مجاهدًا
رحيمًا، وتملأ البسمة فمها حينما تذكره كواحد من أعظم أبطالها، ووجه القدس يعرفه
صلاح الدين جيدًا، ويملأ الحزن قلبه من قسوة الناس مع هذه المدينة المباركة،
الجالسة فوق رُبا عالية، تنظر إلى الناس في كبرياء وجلال جيلاً وراء
جيل.
وقد عاد صلاح الدين إلى القدس بعد صلح الرملة
الذي عقده مع ريتشارد قلب الأسد في شعبان من سنة خمسمائة وثمان وثمانين، وأخذ يرتب
أمور المدينة المقدسة، وينظم شؤونها الإدارية، ووسع في أوقاف المدارس
والصوفية.
ثم اشتاق قلبه إلى الحج، وطار به الشوق إلى
سماء مكة والمدينة وأرضهما، فعزم على الحج، لكن أصحاب الرأي من المسلمين، رأوا أن
يؤجل السلطان حَجَّه إلى عام آخر، خوفًا على البلاد من الصليبيين، فاستجاب صلاح
الدين للنصح، ومكث في بيت المقدس بقية شعبان وجميعَ شهر رمضان قضاه في صيام وصلاة
وقرآن في رحاب المسجد الأقصى وعند الصخرة، وكان يُكْرِم ملوك الفرنجة إذا وفدوا
عليه، تأليفًا لقلوبهم، ومنعًا لشرورهم عن المسلمين.
وفي الخامس من شوال ركب السلطان الناصر صلاح
الدين يوسف بن أيوب وعساكرُه الخيول ونيتُه دمشق، بعد أن عين عز الدين جوردبك
نائبًا له على القدس، وبهاءَ الدين بن يوسف بن رافعٍ الشافعيَّ قاضيًا عليها، وراحت
الخيل تخرج من القدس متثاقلة، فهي الخطا الأخيرة هنا لصلاح الدين فوق هذا التراب
الغالي؛ إذ توفي ـ رحمه الله ـ في دمشق أواخر شهر صفر من العام التالي، وترك القدس
وغيرها أمانة في أعناق خلفائه من بني أيوب.
صلح الرملة:
استهلكت مواجهة الحملة الصليبية الثالثة
(التي جاءت لاسترداد القدس من المسلمين) جهودا ضخمة من صلاح الدين وجيوشه، حتى ملَّ
كثيرٌ من جنوده طولَ القتال وشدتَه، لكن القائد الباسل وكبار رجاله راحوا يحثون
الناس على الثبات والصبر، ويحمّلونهم مسئولية الذود عن الأمة الإسلامية وعن
دينها..
ولم يكن الصليبيون أقلَّ مللا للقتال، الذي
كان يكلفهم كل يوم ثمنا باهظا من القتلى والأسرى والأموال والسلاح.. ومع هذا ظلَّ
الموقف الحربي ـ في الغالب ـ ثابتا بين الفريقين، فالصليبيون عاجزون عن استعادة بيت
المقدس، والمسلمون غير قادرين على إجلاء الغزاة عن السواحل
الشامية..
في هذه الأجواء مال الخصمان إلى المسالمة،
واتفقا على عقد هدنة بينهما، فعُقدت وتضمنت بنودا: أولها ثبات كل فريق على ما تحت
يده من الأرض (وكان للفرنجة حينها الشريط الساحلي الممتد من صور إلى حيفا).. وثاني
بنود الاتفاقية: إتاحة الفرصة للصليبيين لزيارة بيت المقدس بغير ضريبة يدفعونها،
وثالثها: إيقاف الحرب بين الطرفين ثلاث سنوات..
وهذا البند الأخير يؤكد أن معاهدة الرملة
ليست رضىً بالاحتلال، ولا سكوتا على اغتصاب أرض المسلمين، وإنما كان اتفاقا مؤقتا
لالتقاط الأنفاس المتسارعة من كثرة الحروب بلا جدوى..
العلاقات السياسية في ال