aa_h222
عدد المساهمات : 40 تاريخ التسجيل : 09/04/2011
| موضوع: خلفاء صلاح الدين والقدس السبت أبريل 09, 2011 10:32 am | |
| خلفاء صلاح الدين والقدس
أدت اتفاقية الرملة بين صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد عام 588 هـ ـ إلى حالة من الاستقرار النسبي في القدس وفي عموم المنطقة، إلا أن هذه الحال لم تطل فيما بعد بسبب النزاع بين خلفاء صلاح الدين، الذي قُسمت مملكته عقب وفاته بين أبنائه وإخوته وصارت القدس تحت ولاية ابنه الأكبر الأفضل نور الدين عليّ حاكم دمشق، ثم خرج العزيز ابن صلاح الدين على أخيه الأفضل، وتنازعا حول دمشق، فأصلح عمهما العادل بينهما، على أن تدخل القدس تحت أملاك العزيز حاكم مصر، ثم تعاون العادل وابن أخيه العزيز في الاستيلاء على دمشق، وآلت مصر ودمشق وفلسطين وأكثر مملكة صلاح الدين إلى العادل بعد وفاة العزيز سنة 595 هـ، وجعل العادل ولاية القدس إلى ابنه المعظم، وفي ولايته سنة ستمائة وسبع حاول الصليبيون غزو القدس، لكنهم طلبوا الصلح حين رأوا ثبات المسلمين وصبرهم.
لقد ترك صلاح الدين في نفوس الصليبيين ميراثا كبيرا من البغض للمسلمين؛ لأن آمالهم في البقاء بالقدس وغيرها من أرض الإسلام قد أصبحت أحلاما ضائعة أمام ثبات صلاح الدين وجهاده، الذي تواصل حتى لقي الله تعالى، لذلك لم يكن خلفاء صلاح الدين يلتقطون أنفاسهم من قتال الفرنجة الصليبيين في موقعة حتى تُشَنّ عليهم حرب صليبية من ناحية أخرى، فبعدما عُقد الصلح في الشام سنة ستمائة وسبع، أقبل الصليبيون بجحافلهم إلى مصر في سنة ستمائة وتسع، فاجتمع لهم الملك العادل، وابناه الفائز والمعظم والي القدس واشتدوا وأعدوا قواتهم، فبلغ العادلَ أن أحد الأمراء التابعين له ثار في الشام وحاول الاستيلاء على دمشق والقدس وغيرهما، فسارع العادل لكي يَسُدَّ الخلل، ويعالج الأمور قبل أن تخرج عن سيطرته، وأرسل ابنه المعظم ليقضي على الفتنة، فسارع بقواته نحو القدس حتى سبق إليها، وحاول أن يرد الثائر إلى الطاعة بالملاطفة والحكمة، لكنه رفض الاستجابة، فمال عليه المعظم بقواته حتى شرده وقبض عليه، واستولى على ما تحت يده من المال والثروة.
وبوفاة العادل أخي صلاح الدين، مات الأمراء الأقوياء من بني أيوب، وأصبح الأبناء أكثر استعدادًا للتقاتل فيما بينهم من أجل النفوذ والسلطان، واشتدت الهجمات الصليبية على مصر لإبطال وإضعاف قدرة المسلمين فيها على حماية الشام والقدس، حتى أيقن الكامل بن العادل أن هجمات الفرنجة على ممتلكاته في مصر لن تنقطع إلا بتسليمهم القدس التي انتزعها من الناصر ابن أخيه المعظم، فعقد معهم صلحا على ذلك، وبات المسلمون في حزن عام لا يصدقون ما حدث، حتى عادت المدينة المقدسة في سلطنة الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى رحاب المسلمين، بعد أن حررها السلطان الناصر داود تحريرا مؤقتا.
العادل وبيت المقدس:
أعظم السلاطين الأيوبيين بعد صلاح الدين هو أخوه الملك العادل أبو بكر، الذي اكتسب خبرة كبيرة في الحرب والإدارة؛ نتيجة لاشتراكه مع أخيه صلاح الدين في معاركه ومفاوضاته وإدارته لأقاليم الدولة، واشتَهر بالكفاية والدهاء والدراية بشؤون الحكم.
كان العادل بمنزلة النائب لأخيه صلاح الدين، حتى ناب عنه في مصر عند رحيل السلطان إلى بلاد الشام لجمع الشمل المسلم وحرب الصليبيين هناك. وفي جولة تحرير القدس أرسل صلاح الدين إلى أخيه العادل في مصر، فأقبل عليه في قواته، وشاركه في تحريرها، كما شاركه في جولات أخرى كثيرة.
وبعد وفاة صلاح الدين سنة 589هـ كانت العراق وديار بكر هي نصيب العادل من تركة أخيه الراحل. وتولى أبناء صلاح الدين: العزيزُ على مصر، والأفضلُ على دمشق وبيت المقدس، والظاهرُ على حلب.
ولم يطل الأجل بالسلطان الشاب العزيز عماد الدين؛ إذ سقط عن فرسه وهو في رحلة صيد فمات سنة 595هـ، ولم يكن له من الولد من يصلح للسلطنة، فضم العادل مصر إلى مملكته، وكان قد أخذ من الأفضل ما تحت يده سنة 591هـ، وأبقى له ناحية صغيرة على شاطئ الفرات تُسمَّى سُمَيساط..
وهكذا اتسع سلطان العادل، حتى صار الوريثَ الأكبر لمملكة أخيه صلاح الدين، فحكم الحجاز ومصر والشام واليمن وديار بكر وأرمينية..
ولكي يضمن العادل وحدة مملكته وضع أبناءه نوابا عنه على بعض أنحائها، فكانت دمشق والقدس تحت ولاية ابنه المعظم، ومصر مع ابنه الكامل، وأعطى ابنَه أيوب ميافارقين..
وقد مكث العادل أيام حكمه في جهاد متواصل وحروب مريرة مع الصليبيين، لا توقفها إلا معاهدات مؤقتة، ربما تنازل لهم فيها عن مال أو أرض، وربما انتصر عليهم، وقد ينتصرون هم.. لكنه أضاع الكثيرَ من جهده في سبيل الاستيلاء على المزيد من تركة أخيه الراحل.
وتوفي العادل سنة ستمائة وست عشرة حزنا وكمدًا لاستيلاء القوات الصليبية على برج السلسلة الواقع في جزيرة شمال النيل عند التقائه بالبحر المالح، وكان البرج "كالقفل على ديار مصر.. وحين وصل الخبر إلى الملك العادل، وهو بمرج الصُّـفّر، تأوه لذلك تأوها شديدا - أي تألم وتوجع - ودق بيده على صدره أسفا وحزنا على المسلمين وبلادهم ومرض من ساعته مرض الموت".
المعظم عيسى وبيت المقدس:
وصف المؤرخون الملك المعظم عيسى بن العادل بأنه "جُمع له بين الشجاعة والبراعة والعلم"، وإن كانت له هفوات وأخطاء قاتلة، وقد كان للمعظم نصيب في ولاية القدس والدفاع عنها، فوُلّيَ دمشق والقدس في حياة أبيه، ثم انفرد بهما سنة 615 هـ حتى توفي سنة ستمائة وأربع وعشرين.
لم يكن الصليبيون يَمَلُّون من محاولاتهم استعادة القدس منذ خرجت من أيديهم، بل واصلوا الحرب تلو الحرب أملاً في استردادها، وفى سنة ستمائة وسبع كانت لهم محاولة إلى ذلك، فتحركوا بقواتهم ناحية القدس، وارتكبوا بعض المفاسد، فخرج إليهم المعظم عيسى بجنوده، وقام أهل العلم يحضون الناس على الجهاد في سبيل الله، وكان بدمشق حينئذ عالم كبير وواعظ جليل هو سبط ابن الجوزي، يجلس ويلتف الناس حوله بالآلاف، فقام في ربيع الأول من هذا العام وخطب في الناس، وحضهم على الجهاد في سبيل الله، وأخرج لهم شَعرًا لأناس تابوا بين يديه، وصنعوا منها ما يفيد في عون المجاهدين، فلما رآها الناسُ في مجلس الوعظ بكوا بكاء شديدًا، وقطعوا من شعورهم مثلها، وخرج العالِم من دمشق راكبا فرسه "والناس من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، فخرج من باب الفرج، وبات بالمصلى، ثم ركب من الغد في الناس.. ومعه خلائق كثيرون، خرجوا بنية الجهاد إلى بلاد القدس...".
وحين وصل الركب إلى نابلس تلقاهم المعظم عيسى، فلما رأى ما صُنع من شعور التائبين، "جعل يقبِّلها ويمرِّغها على عينيه ووجهه ويبكى"، والتقى سبط ابن الجوزي بجمهوره في نابلس ووعظهم، وحضهم على الجهاد في سبيل الله، ثم خرجوا في جيش المعظم نحو الفرنجة، فقتلوا منهم كثيرًا، وخربوا أماكن لكي لا يستفيد منها الصليبيون في الهجوم على المسلمين، وغنم المسلمون وعادوا سالمين، وحصن المعظم جبل الطور بالقدس ليكون مجالاً لإرباك الصليبيين.
ورأى الفرنجة الصليبيون أن المسالمة في هذه الحال أفضل لهم، فراسلوا الملك العادل والد المعظم، وصالحوه على هدنة بين الطرفين، فوافقهم على ذلك.
وفى سنة ستمائة وأربع عشرة انقضت المهلة، فعاد الصليبيون إلى الإفساد في الأرض، فنهبوا ما كان في بيسان من الغلات والدواب، وقتلوا وسبوا كثيرا من المسلمين، وانتشروا بين بيسان وبانياس يقطعون الطريق ويقتلون ويأسرون، فتحرك الملك المعظم بقواته حتى نزل بين القدس ونابلس "خوفًا على القدس منهم، فإنه هو الأهم الأكبر" فرجعوا دون مرادهم من القدس.
وفي السنة التالية قاتل المعظم الصليبيين عند القيمون، فغلبهم، "وقتل منهم خلقا، وأسر من الداوية - وهي قوات خاصة - مائة، فأدخلهم إلى القدس منكَّسةً أعلامهم".
لكن المعظم أخطأ خطئًا كبيرا حين هدم سور القدس، وذلك في المحرم من سنة 616هـ، فصعَّب على المسلمين فيما بعد مهمة حماية المدينة وحراستها من العدو المتربص، وهرب المقدسيون من المدينة مخافة أن يفاجئهم الصليبيون، "وتركوا أموالهم وأثاثهم، وتمزقوا في البلاد كل ممزق".
الكامل الأيوبي والقدس
أصبحت تركة العادل وميراثه ثقيلا على من بعده، سواء في مصر أم الشام، فتحمل ابنه الكامل أثقل المسئوليات؛ إذ كانت ولايته على مصر، وصار لزامًا عليه أن يواجه الحملة الصليبية القوية، والتي تقدمت سنة ستمائة وخمس عشرة (في أواخر حياة أبيه) حتى استولت على دمياط، وقتلوا العباد وخربوا البلاد.
هنالك استنجد الكامل بالمسلمين وأمرائهم ليدركوا المسلمين قبل أن يملك الفرنجة مصر، ويتحكموا منها في مصير المنطقة، فأقبلت العساكر الإسلامية إليه من كل مكان، وكان أولَ من قدم عليه أخوه الأشرف، ثم المعظم. وهاجمت قوات المسلمين الفرنجة في السنة التالية، بعد أن كمل استعدادها، فهُزم الصليبيون، وقُتل منهم عشرة آلاف، وأخذ المسلمون منهم خيلا وأموالا كثيرة، دون أن يحرروا دمياط.
كل هذا والقدس هدف أعز منالا على السهام الصليبية، لكنها بقيت متنقلة بين أيادي بني أيوب كما كان حالها معهم دائما، فبعد صلاح الدين تولى عليها ابنه الأفضل، ثم أخذها منه عمه العادل، وورثها عنه ابنه المعظم، وبوفاة المعظم سنة 624هـ تولى أمر القدس ابنه الناصر داود، لكنها لم تدم في يده طويلا؛ إذ انتزعها منه سريعا عمه الكامل سلطان مصر.
كان الكامل يقاتل الصليبيين وهو يعلم أنهم قصدوا مصر لكسر شوكتها والاستيلاء عليها، ليسهُل لهم الاستيلاء على بيت المقدس، فحرص على ألا يعطيهم الفرصة لتحقيق هذا الهدف الكبير. لكنه حين أحس بضعف التحالف الذي بينه وبين إخوته، ووقعت وحشة بينه وبين أخيه الأشرف، عرض على الصليبيين المعسكِرين في دمياط أن يأخذوا بيت المقدس وكل ما أخذه صلاح الدين منهم، مقابل أن يتركوا دمياط ويرحلوا عنها، لكن الصليبيين ظنوا أن الكامل لن يدعهم مادامت في مصر قوة، فلم يقبلوا ما عرضه عليهم.
وجاء القدر الإلهي بنجدة المسلمين، حيث ضاقت الأقوات على الصليبيين في دمياط، وجاءهم الطعام من البحر فاستولى عليه أسطول المسلمين، وفتح بعض المسلمين عليهم سدًا على النيل عند دمياط، حتى غرقت المدينة، وصار الصليبيون فيها محصورين من الجهات الأربع، وشدد المسلمون الحصار عليهم، حتى اضطر الصليبيون إلى طلب الصلح مع الجلاء، فوافقهم الكامل ولم يعطهم من الأرض شيئًا.
وفى سنة خمس وعشرين وستمائة جدد الصليبيون دماءهم بقوات جديدة أقبلت من صقلية في الحملة السادسة، فاستولوا على صيدا وانتزعوها من يد المسلمين، وزحف الكامل بقواته من مصر إلى الشام حتى دخل بيت المقدس لحمايتها، وحين اطمأن إلى وجود أخيه الأشرف وقواته في الشام عهد إليه بحفظ بيت المقدس، وهمّ بالعودة إلى مصر، لكن الأشرف خشي على بيت المقدس من الفرنجة، فرجا أخاه أن يبقى إلى جواره لحماية المدينة المقدسة، فبقي الملكان هناك "يحوطان القدس من الفرنج".
وأتى العام التالي بمفاجأة غير سارة للمسلمين، إذ وقع الخلاف والتنازع بين أبناء البيت الأيوبي، والصليبيون على مقربة منهم، والكامل مقيم بنواحي بيت المقدس، ووجد الصليبيون فرصتهم الذهبية في النزاع البادي بين المسلمين، فدخلوا مع الكامل في مفاوضات أملوا فيها شروطهم برد القدس وما استعاده صلاح الدين منهم، وأُمضي الصلح على إعادة بيت المقدس إلى الصليبيين بمنتهى اليسر والسهولة، وهي التي استردها المسلمون بالأمس بدماء الشهداء، وبذلوا لأجلها أقصى ما يمكنهم بذله. لذلك كان وقع هذا الحادث مؤلما على المسلمين، وبقي نقطة سوداء في تاريخ السلطان الكامل الأيوبي.
تأثر المسلمين بتسليم القدس للصليبيين:
بقيت أمجاد تحرير الأيوبيين الأولِ للقدس سنة 583هـ أغنية ينشدها المسلمون، وأحبوا جهاد بني أيوب وحفْظهم للمدينة المباركة، ووضعوا القائد الكبير صلاح الدين موضع الاحترام الشديد..
لكن لم تمر اثنتان وأربعون سنة على تحرير صلاح الدين للقدس، أي في سنة ستمائة وست وعشرين، حتى جاء من البيت الأيوبي من يدخل في هدنة ومفاوضات يصالح فيها الصليبيين مقابل أن يتنازل لهم عن درة المدن وزهرتها الغالية (القدس) ما عدا الحرم القدسي، وهو السلطان الكامل ابن أخي صلاح الدين، وأراد من ذلك أن يتخلص من المنافسة مع الصليبيين، ليتفرغ لتوسيع ممتلكاته على حساب غيره من السلاطين الأيوبيين!!
ودخل الإمبراطور فرديرك الثاني قائدُ الحملةِ بيتَ المقدس في ربيع الآخر، في احتفال مهيب، وهو مملوء بالفخر لما حققه بغير قتال من نصر لم تستطع أوروبا أن تحققه بالحرب والقتال في أربع حملات صليبية جاوزت قواتها المليون من الجنود.
وما سمع المسلمون بالخبر، حتى صاروا في ذهول شديد، لا يصدقون ما جرى، وتألمت القلوب له تألما شديدًا، وبكى المسلمون في شوارع دمشق وبيوتها ومساجدها، وفى شتى بلاد المسلمين، حتى لم يمر على دمشق يوم بكت فيه كبكائها في هذا اليوم!!
"وبقي أهل بيت المقدس مع الفرنج في الدار، ونطق الناقوس، وصمت الأذان، وعد الناس ذلك وصمة في الدين، وتوجهت به اللائمة من الخلافة (والمسلمين) قاطبة على الكامل".
الناصر داود وتحرير مؤقت للقدس:
انتقل شرف الإمارة على القدس ودمشق عقب وفاة المعظم سنة 625هـ ـ إلى ابنه الناصر داود، ومن هنا صار لزامًا على الناصر الحفاظ على الدرة الثمينة (القدس) وصيانتها من التربص الصليبي بها، لكن المفاجأة جاءت في العام التالي لتولي داود السلطة (سنة 626هـ)، إذ استولى عمه الكامل على القدس، وعقد هدنة مع الصليبيين لمدة عشر سنوات، يمتنعون أثناءها عن الحرب، على أن يمنحهم القدس.
وكان ذلك الصلح من أجل أن يتفرغ الكامل لانتزاع دمشق من يد الناصر داود، وفى جولات متتابعة تنقلت دمشق من يد إلى يد، وامتد سلطان الناصر داود وانحسر، حتى أصبح أميرًا على حصن الكرك إلى الشرق من البحر الميت، وكان له دور كبير في وضع نجم الدين أيوب في السلطنة على مصر، بعد أن رأى ألوان الذل والسجن. ولنجم الدين هذا فضل في التحرير الأيوبي الثالث لبيت المقدس.
لقد كان التحرير الأيوبي الأول للمدينة المقدسة على يد الناصر صلاح الدين، والثاني على يد الناصر داود، حيث قرر داود في سنة 637هـ التفرغ لتحرير القدس من يد الصليبيين الذين عاش مسلمو القدس بينهم في ذلة..
كان الناصر داود يؤمن جيدًا بأن أي نداء للجماهير المسلمة لتحرير القدس سيلاقي استجابة سريعة، فجمع جمعا عظيما من المسلمين، وقسمهم فرقا لكل فرقة راية، ووزعهم على جوانب المدينة، واتفق على أن تكون إشارة البدء التي يكون عندها الهجوم على الصليبيين هو التكبير..
سارت القوات المسلمة ليلاً، وأخذوا أهبتهم واستعدادهم الكامل، وأشعلوا النيران، ورفعوا الرايات، والصليبيون في القدس يحتفلون بعيدهم، قد انشغلوا بشرب الخمر واللهو واللعب...
وهنا ارتفع صوت التكبير، فتردد بين المشرق والمغرب، وسمع الصليبيون في القدس الصوت يأتي من كل مكان كالرعد، فملكهم الخوف والجزع، ودخل المسلمون المدينة وقتلوا الكثير من الصليبيين وبينهم ملكهم.
وأعاد الناصر ما كان قد أقره الناصر صلاح الدين أخو جده من احترام الأماكن الطاهرة وصيانتها، وكتب داود بالبشرى إلى المسلمين في كل مكان، وعاد الشاعر يقارن بين الناصر داود والناصر صلاح الدين ويقول:
المسجد الأقصى له عادة
سارت فصارت مثلاً سائرًا
إذا عاد بالكفر مستوطنًا
أن يبعث الله له ناصرًا
فناصر طهره أولاً
وناصر طهره آخرًا!!
ولأن القدس كانت حينئذ مدينة بلا أسوار، يصعب الدفاع عنها إلا بقوات ضخمة، والبيتَ الأيوبي ضعيف لا تجتمع لسلاطينه كلمة، بل تحالف بعضهم مع الصليبيين ـ لهذا كله فقد انسحب الناصر داود من القدس نحو الكرك، فدخلها الصليبيون من جديد.
الملك الصالح أيوب وتحرير القدس:
بعد تحرير الناصر داود لها عادت القدس إلى الصليبيين من جديد؛ بسبب تحالفاتهم مع بعض ملوك البيت الأيوبي، منهم الصالح إسماعيل صاحب دمشق، والمنصور صاحب حمص.
كان هذا التحالف معقودًا في وجه سلطان الديار المصرية نجم الدين أيوب، الذي استقدم من المشرق جيشًا من وراء الفرات، من بقايا الدولة الخوارزمية المنهكة في مواجهات عديدة مع قوات المغول وغيرهم.
وفي سنة اثنتين وأربعين وستمائة وقعت معركة شرسة بين جيش نجم الدين أيوب، وفيهم القوات الخوارزمية، وبين الحلف المضاد من الصليبيين وبعض الأمراء الأيوبيين، وانتصر نجم الدين وقواته انتصارًا ساحقًا، وانكسر الفرنجة وحلفاؤهم، وقال بعض أمراء المسلمين المتحالفين مع الصليبيين: "قد علمت أنّا لما وقفنا تحت صلبان الفرنج أنا لا نفلح"!
وفي نفس هذه السنة حاصر نجم الدين أيوب بقواته من الخوارزمية ومن مصر بيت المقدس التي رجعت مدينة صليبية يجلس المحتلون على صخرتها، ويشربون الخمر، وعُلق الجرس في المسجد الأقصى، وصمت صوت الأذان. وقد كان الصليبيون حاولوا تحصين المدينة وتعزيز حاميتها وتقوية استحكاماتها، لكن الحماس والشدة التي ميزت قوات الخوارزمية جعلتهم يقتحمون المدينة المباركة بقوة، حيث دار في شوارعها قتال شديد انهارت فيه المقاومة الصليبية، وقَتل فيها الخوارزمية عددًا كبيرًا من الصليبيين، وتركوا ستة آلاف من رجالهم ونسائهم وأطفالهم يخرجون بشفاعة من الملك الناصر داود.
وفي عام ستمائة وأربعة وأربعين نزل الصالح نجم الدين أيوب أرض الشام، ودخل دمشق، وغزا بعض المدن والحصون، "وزار في رجوعه (في العام التالي) بيت المقدس، وتفقد أحواله"، وأمر بإعمار سور المدينة، كما كان أيام الناصر صلاح الدين، وأنفق على ذلك من الخراج، وما يتحصل من غلات بيت المقدس، وتعهد بالإنفاق على ذلك من ماله إن احتاج".
وكان هذا التحرير للقدس هو التحرير الثالث الذي قام به الأيوبيون للمدينة المباركة، حيث بقيت في يد المسلمين بعدها زمنًا طويلاً، وتنافس عليها الأيوبيون والمماليك، حتى انفرد بها المماليك، وتلاهم العثمانيون، ثم دخلتها القوات البريطانية في أوائل القرن العشرين الميلادي، وتلاها الاحتلال الصهيوني في عامي 1948 و1967.
القدس بين الأيوبيين والمماليك:
من تحت العباءة الأيوبية خرجت دولة المماليك؛ إذ عمد سلاطين بني أيوب المتأخرين إلى الإكثار من الرقيق الذين يجلبونهم صغارًا، ويربونهم على الفروسية، دعمًا لسلطانهم وتثبيتًا لملكهم، وأهم هؤلاء السلاطين الأيوبيين نجم الدين أيوب صاحب الديار المصرية.
وقد عظم شأن مماليك نجم الدين أيوب بعد وفاته حتى قتلوا ولده توران شاه، وقفزوا على كرسي الملك في صورة المملوك عز الدين أيبك سنة ستمائة وثمان وأربعين ومنذ هذه اللحظة دب النزاع والخلاف بين الأيوبيين في الشام والمماليك في مصر حول مواضع النفوذ، يقود الأيوبيين الناصر يوسف صاحب دمشق، ويتزعم المماليك عز الدين أيبك.
وقد بلغ من انحطاط الملوك حينئذ أن كلا الطرفين حاول الاستعانة بالصليبيين ضد الآخر، والمذهل أن كليهما وعد الصليبيين بإعطائهم بيت المقدس مكافأة لهم على هذا التحالف.
وأدرك المستعصم متولي الخلافة العباسية في بغداد خطورة هذا الوضع، وأيقن أن هلاك المسلمين بمصر والشام متحقق من جراء تحالفهم مع الصليبيين، خاصة أن التتار مقبلون من المشرق زحفا على دار الخلافة، كأنهم إعصار لا يوقفه شيء، فبعث الخليفة المستعصم نجم الدين البادرائي رسولا للصلح بين المسلمين في مصر والشام، فوجد القتالَ قد نشب بين الفريقين، واشتدت الحرب، والصليبيون ينتظرون من عز الدين أيبك أن يسلمهم بيت المقدس إلا أن البادرائي أفلح في الإصلاح بين الفريقين المسلمين المتنازعين، وردهما إلى الصواب، وذلك سنة ستمائة وإحدى وخمسين.
وكان من شروط هذا الصلح أن تبقى لأيبك مصر وجنوب فلسطين بما فيها بيت المقدس. لكن المدينة المباركة انتقلت في معاهدة صلح جديدة (سنة ستمائة وأربع وخمسين) إلى السلطان الناصر يوسف صاحب دمشق، وبقيت في يده إلى سنة 658هـ، حيث جاء الإعصار المغولي قاصدًا اجتياح الشام ومن بعدها مصر، لكن المغول انكسروا في عين جالوت.
القدس وانكسار التتار:
مثلَ كل المدن، كانت القدس في القرن السابع الهجري، مهددة بأن يجتاحها الإعصار المغولي، بصورة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من قبل، حيث يخرَّب كل العمران، ويقتل كل الأحياء، وتغيب عن وجه المكان كل المظاهر التي توحي بوجود حياة فيه!
ففي سنة ستمائة وثمان وخمسين، وبعد سنتين من تدمير بغداد وقتل أهلها وخليفتها العباسي المستعصم ـ وقف التتار على أبواب الشام، لتشهد الدنيا تحولاً من تحولاتها الكبيرة، ولينتقل الملك والسلطان من قوم إلى قوم، إذ أصاب الرعب والخوف مسلمي الشام ومصر، حتى خشي الناصر يوسف الأيوبي حاكم دمشق ومتولي بيت المقدس من الغزاة القادمين، فراح يخطب ودهم، لكنه لم يفلح، وحاول أن ينازلهم في ساحات القتال، لكنه عجز أيضًا.
وتحركت المقادير العجيبة، فسار التتار ودخلوا حلب، وارتكبوا فيها المجازر الوحشية وخربوها، ثم دخلوا دمشق، وزحفوا ينهبون البلاد حتى وصلوا إلى غزة، ونيتهم منعقدة على اجتياح مصر، وتركوا القدس وراء ظهرهم لا مطمع لهم فيها، إذ قللت الحروب الكثيرة حولها من رغبة الناس في الإقامة فيها.
وعند عين جالوت، جنوب فلسطين، كان انكسار الموجة التترية وبداية انحسار مدهم، حيث التقى بهم المسلمون يقودهم سلطان المماليك الكبير سيف الدين قطز عند عين جالوت في رمضان من سنة ستمائة وثمان وخمسين، فهزموهم بإذن الله، وردوا عن البلاد شرورًا هائلة.
وكان من نتائج ذلك بالنسبة للقدس بزوغ نجم المماليك، حيث دخلت المدينة المباركة تحت سلطانهم، ولم يزولوا عنها حتى زالت دولتهم كلها، كما اضمحل سلطان الأيوبيين، ولم يعودوا ينازعون على الملك إلا على استحياء، ثم دخلوا في جحور التاريخ تمامًا، إذ قتل المغول بعضهم، وقتل الظاهر بيبرس بعضهم الآخر حين راسلوا التتار.
القدس ودولة المماليك:
لم يكن للمماليك نسب معروف بين المسلمين، كما كان الخلفاء والملوك من قبلهم، فقد تعود المسلمون أن يكون أمراؤهم من أسر كبيرة وذات شأن، سواءً كانوا عربًا أم فرسًا أم أكرادًا أم تركًا... هكذا كان شأن الوزراء في الدولة العباسية، وشأن أمراء الطولونيين وسلاطين الأيوبيين.
لذلك سعى المماليك إلى تثبيت شرعيتهم على العروش في العالم الإسلامي، وسلكوا إلى ذلك طرقا مختلفة، فحاول الظاهر بيبرس إحياء الخلافة العباسية في القاهرة، بعد أن زالت عن بغداد في دمار التتار لها سنة ستمائة وست وخمسين.
كما بذل سلاطين المماليك المتتابعون جهودًا ضخمة في حفظ بيضة الإسلام وصيانة بلاده، خاصة في مواجهاتهم الشرسة للتتار والصليبيين في أزمان واحدة، حتى أنهكوا قواهما، فمال أغلب التتار إلى الإسلام، وحمل الصليبيون متاعهم، ورجعوا إلى بلادهم.
وقد كان المظهر الديني لدولة المماليك، كحافظة لديار الإسلام ومقدساته، يلزمهم رعاية المدن والمواطن ذات المكانة الدينية، وهي: مكة والمدينة وبيت المقدس.
وكان من وجوه العناية المملوكية بالقدس: الضبط الإداري لها، وتحويلها من ولاية صغيرة تابعة لدمشق إلى نيابة أو إمارة مستقلة عنها، تتبع الدولة مباشرة، كما أدرك المماليك أن الحملات الصليبية على الشواطئ الشامية والمصرية غرضها القدس، فتصدوا لها بكل قوة.
كما اعتنى المماليك بجانب العمران في القدس، فعَمَروا المسجد الأقصى وقبة الصخرة، مثلما فعل بيبرس وقلاوون والمنصور لاجين والأشرف قايتباي وغيرهم، كذلك أنشأ سلاطين المماليك وأمراؤهم العديد من مدارس العلم في القدس، ففي عهد الناصر محمد بن قلاوون أنشأ تنكز نائب الشام مدرسة للحديث، والأمير علم الدين سنجر مدرسة أخرى.
واعتنى المماليك بتيسير سبل الحياة في المدينة المقدسة، فأنشأوا الأسبلة لسقيا الناس، مثل سبيل قايتباي.
ومن وجوه العناية المملوكية بالقدس أيضًا، أن قضاة المدينة كانوا يعينون بمعرفة السلطان في القاهرة مباشرة، وأصبح خطيب المسجد الأقصى لهذا العهد منصبًا مهمًا، يعطاه ـ في الغالب ـ أولو العلم والدين.
وضع القدس الإداري في عهد المماليك:
في عهد الأيوبيين كان السلطان يضع في الولاية على القدس أميرًا من أمرائه، ويطلق عليه اسم "والي بيت المقدس"، وكانت المدينة في ذلك تتبع دمشق دائمًا ويُعَيَّن واليها من قبل نائب دمشق.
واستمر العمل على ذلك في حكم المماليك إلى زمن السلطان الأشرف شعبان الذي وُصف بأنه "ساس الناس في دولته أحسن سياسة"، حيث حُوِّلت القدس عام سبعمائة وسبعة وسبعين إلى ولاية مستقلة، يعين واليها من قبل السلطان في القاهرة مباشرة، والوالي مسئول أمام السلطان عن أمن القدس وسلامتها.
وزيادة في ضبط أمور القدس إداريا، ربطها المماليك بالقاهرة، وعملوا على تيسير طرق الاتصال بها، فوضعوا فيها أبراج الحمام التي تحمل الرسائل إلى العاصمة ومنها.
ولاهتمام المماليك بالواجهة الدينية لسلطنتهم، حاولوا حفظ بيت المقدس من جور نوابهم بها، فاهتموا بانتقاء هؤلاء النواب وقضاتهم ومراقبتهم، وحرصوا على تغيير نائب المدينة إن ظهر منه عجز أو ظلم ضد سكان القدس، فقد عزل الملك الظاهر جقمق نائبه على القدس خشقدم حين ظلم الرعية وشكوا من جوره، وعزل الأشرف قايتباي الأمير خضر بك ومن بعده دقماق نائبي القدس حين قسوا على أهلها، وظلما الخلق.
وكانت اختصاصات نائب القدس وسلطاته هي النيابة عن السلطان في حكم المدينة، بـ "تنظيم العمل بالشرع الشريف، والعمل على إعلاء كلمته، وتأليف قلوب الرعية على حب السلطان وحماية المملكة التي يحكمها، وحماية أهل الذمة فيها ما داموا طائعين، وتأديبهم إذا خرجوا عن الطاعة". ومن اختصاصات نائب القدس كذلك تحديد الولاة والعمال في الأعمال الفرعية المختصة بولايته، والمسئولين عن البريد.
وارتبطت مسئوليات نائب القدس الدينية بمسئولياته الدنيوية، فكان في أغلب أيام المماليك نائبا على الخليل والقدس معا، وناظرا في الحرمين المسجد الأقصى والمسجد الإبراهيمي بالخليل. كما كان يستقبل حجاج النصارى إلى بيت المقدس في ميناء يافا، ويعين لهم حرسًا.
كذلك كان هناك موظفون تابعون لنائب القدس أيام المماليك، مثل كاشفِ بيت المقدس المسئول عن أراضيها وجسورها، والمحتسبِ، وترجمانِ القدس الذي يتعامل مع وفود الحجيج المسيحية القادمة من أوروبا وغيرها، ووكيلِ بيت المال، ونقيبِ الأشراف من ولد علي بن أبي طالب، وناظرِ كنيسة القيامة.
وهناك مجموعة أخرى من الوظائف الشرعية التي كانت في القدس تابعة لنائبها كالقضاء، والخطابة في المسجد الأقصى، ومشيخة المدرسة الصلاحية. |
| |
|